فلا كبارنا ماتوا ولا صغارنا نسوا
تاريخ النشر : الأحد , 16 أغسطس 2009 - 10:51 صباحاً بتوقيت مدينة القدس
فلا كبارنا ماتوا ولا صغارنا نسوا
بقلم/ عبد الحكيم مفيد
يموت الكبار, وينسى الصغار, من منا لا يعرف ذلك, بعد ستين عاماً على النكبة كان من المفروض ان يموت الكبار وينسى الصغار معهم, ينسوا ما كان مات عليه الكبار.
بعد ستين عاماً, لا مات كبارنا ولا نسي صغارنا, كبارنا المدفونون تحت ثرى الأرض, ما زالوا أحياء, فليس مثل المقابر في بلادنا حياة, وليس مثل الشواهد في الأمكنة المهجورة حيوية, شئ في غاية الغرابة, ان تكون مقبرة هي الحياة, شئ لا يمكن تفسيره إلا لأن هذا المكان, هذه الأرض التي بارك الله فيها وعليها وحولها, تعطي للأشياء معنى على غير ما هي عليه.
كم نكبة حلت بالناس ما بعد نكبة بلدنا, كثير, كم مقبرة فتحت, أكثر، كم عدد الكبار الذين ماتوا, أكثر من ذلك بكثير وكم عدد الصغار الذين بقوا، من الصعب عدهم.
فقط في حالة بلادنا لكل شئ معنى, ما زال يعيش في الناس، فليس هناك وطن يعيش في الناس مثل وطننا, يرافقهم إلى كل الأمكنة, لم تقتل ذاكرتنا العولمة, التي تفتت الناس وهوياتهم وثقافتهم وتاريخهم, على العكس تماما لقد أصبحت أكثر حضوراً, صارت صورتها اقرب, شئ مذهل حقاً بكل المقاييس.
كم شعب نكب؟ كثير
كم ألف شرد ؟ أكثر
كم بلد أبيدت؟ تحتاج إلى دفتر
لكن بلادنا غير كل البلاد, كلما ابتعدت اقتربت منا, وصار لكل شئ فيها معنى, حتى الأشياء غير المهمة, لماذا بالذات بلادنا
لأنها البلاد التي بارك الله فيها...
وبارك حولها...
لأنها بوابة السماء...
هذا هو سر حفظ النكبة, لا يموت كبارها ولا ينسى صغارها, الذين ما زالوا يحملون حلم العودة, هنا وفي جباليا وفي عين الحلوة وفي كوبنهاجن.
عندما يبتعد الناس عن بلادهم ينسونها,من قال ذلك، عندما يبتعد الناس عن بلادهم يزدادون شوقا إليها, أما بلادنا فشوقها لا يوصف ولوعتها لا تصدق.
أي شئ مذهل أكثر من ان يحفظ الأموات للمكان نضرته, أين تحفظ المقابر للمكان حياة في غير بلادنا؟, شئ مذهل, كبارها الميتون ما زالوا هم، وهم بالذات أحياء,من يمت في بلدنا يبق شاهدا, من يمت في بلدنا يبقى اسما, من يمت في بلدنا يبق مكانا,هو تحت الأرض, لكن يعيش فوقها.
مات الذين نحبهم كما كان قال لي قبل عشرة أعوام السفير الفلسطيني في العاصمة الألبانية تيرانا,كان يتمزق وهو يتحدث, مثل عائلته, هو وابناه في ألبانيا, بعد الانتقال من رومانيا, زوجته وابنته المعاقة في دمشق لم يرهما منذ فترة، لأنه ممنوع من الدخول, لأنه ممنوع من الخروج, ممنوع من السفر, شئ من هذا القبيل في العادة تسمعه من الفلسطينيين.
انتهت نكبات شعوب كثيرة بسرعة, بل بسرعة مذهلة, أحياناً تخللها حجم اكبر من الجريمة, والموت والقتل والطرد والتشريد, لكن المقابر بقيت صامتة في تلك البلاد, مات الكبار وكاد الصغار ان ينسوا.
لدى الفلسطينيين أشياء كثيرة, بل هم يحملون ما لم يحمله احد على الارض:
اللجوء....
اللجوء عندهم، أي عندنا, حالة إنسانية استثنائية, تلتصق بالمخيم, والمخيم هو الاسم الثاني للموت, والحصار الذي لا ينتهي.
لم يحارب احد على لقب لاجئ مثلما فعل الفلسطينيون, اللجوء بالنسبة لهم مهنة, موقف، حالة، لا ينتهي اللجوء ما زالت العودة لم تأت,اللجوء هو الذي ما زال يحفظهم, ويحفظ مجدهم, شئ لا تفهمه احيانا..
حتى الذين ما زالوا في وطنهم ما زالوا لاجئين....
حتى الذين ما زالوا يشاهدون بلادهم عن قرب، ما زالوا لاجئين,
اللجوء في حالة الفلسطينيين، أي في حالتنا، صار يقترب من الأساطير, أيعقل ان يحارب الناس على لجوئهم, أيعقل ان يعتز الناس في معسكرات الموت في مخيمات اللاجئين في لبنان مثلا, في أمكنتهم, هذا شئ من اللامعقول, لكن في حالتنا نحن الفلسطينيين هناك ما هو من غير المعقول ما زال معنا لا يغادرنا,
هل سأل احد ما الذي ثبت هذا اللجوء بعد ستين عاما؟
ما الذي جعل اللجوء مهما الى هذا الحد؟؟
هل سأل احد لماذا نجحت كل مشاريع التوطين التي كانت ناتجة عن نكبات اخرى, ببساطة وبسهولة, وأغلقت الملفات, فيما لم ينجح اكثر من 40 مشروع توطين حتى الآن من إزاحة الفلسطينيين، أي نحن, عن لجوئنا؟
أي شئ هو الذي يجعل من نكبتنا حالة نادرة؟
أي شئ هو الذي يبقي فينا كل هذا الشوق واللوعة, صغارنا الذين ولدوا في مستشفيات برلين وكوبنهاجن، بالضبط مثل صغارنا الذين ولدوا في نهر البارد والبداوي وجباليا والدهيشة وعمان واليرموك وابوظبي وام الفحم والجديدة, ما الذي يجعل شوق ولوعة هؤلاء تزداد, لتصل حد الجنون احيانا، بل لتصبح أسطورة بكل المقاييس.
الم يعلمونا ان الناس ينسون بعد حين ؟
الم يقولوا لنا ان الزمن كفيل بشطب الذاكرة؟
الم يؤكدوا لنا ان العولمة ستحرق الأخضر واليابس:
تاريخنا..
وثقافتنا..
وهويتنا..
وبدايتنا..
ونهايتنا..
وسنتحول الى رماد على الشبكة, ليصبح وطننا وهما، لتصبح ذاكرتنا "كليك"، لماذا فشلت كل النظريات في حالتنا
لماذا حطمت كل نظريات "الامر الواقع" عندنا؟
لان وطننا مميز, لا يشبه كل الأوطان,لان وطننا بوابة السماء,ان اغلقت كل السبل,سبيل الأمم المتحدة والقرارات والمفوضية والاتحاد الأوروبي وحتى الذين لفقوا وكذبوا بما فيه الكفاية, فستبقى بوابة السماء مفتوحة,لا تغلق ولن تغلق...
لان وطننا آية في كتاب, مبارك طيب, مبارك ما حوله, هذا الوطن لا يخضع للتفسيرات التي تمتاز بقلة الحياء والتآمر، النتيجة أمامنا، النتيجة أمامكم.
كم متآمر طلب من الناس ان يبيعوا آخر ما يملكون, لأنه لا جدوى من أي شئ يحتفظون به؟
كم مزيف للتاريخ طلب من الناس إجراء "مزاد علني" وما زال, لان "الواقعية" تقتضي ذلك، والنتيجة، بقيت ذاكرتنا وانشغلوا هم بالأناشيد في وسط تل أبيب.
لم يمت كبارنا وما نسوا صغارنا..
في بيتنا هذه الأيام نتحدث كثيرا عن النكبة، وأتوجه إلى كل الأهل ان يتحدثوا مع أولادهم عنها,سيكون الأمر مفيدا لهم، بل مفيد للغاية، هذا العام على غير العادة النكبة حاضرة في بيتنا أكثر, منشغلون أكثر بها, حتى ان أولادي التفتوا إلى بعض بطاقات الدعوة للإعراس, التي ستكون في يوم النكبة, لم يرق لهم الأمر، استغربوا، هم اصغر مني بكثير, لكنهم التفتوا إلى ما لم التفت إليه,انه لا يمكن الفرح في يوم النكبة.