الهجرة النبوية
تاريخ النشر : السبت , 19 ديسمبر 2009 - 1:26 صباحاً بتوقيت مدينة القدس
الهجرة النبوية
بعد أن تمت بيعة العقبة الثانية، ونجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة، عاد الأنصار إلى المدينة ينتظرون هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم بتلهف كبير. وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى هذا الوطن، الذي اختاره الله مهجراً لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ولم تكن الهجرة مجرد التخلص من إيذاء المشركين أو الفرار من الفتنة في الدين، بل كانت كذلك إيذاناً بميلاد دولة الإسلام، وإقامة مجتمع التوحيد الذي تهفوا إليه نفوس المؤمنين.
وإذا كان امتحان المسلمين قبل الهجرة متمثلاً في الإيذاء والتعذيب وتحمل ألوان السخرية والاستهزاء والتكذيب فإن الهجرة كانت تمثل امتحاناً ليس أقل ضراوة، حيث سيترك المهاجر الأوطان والديار والقرابات والأموال، والأصحاب والذكريات، بل سيغامر بنفسه وربما فقدها في أثناء الطريق، فقد سعت قريش بشتى الطرق إلى عرقلة الهجرة أمام المهاجرين، مرة بحجز أموالهم ومنعهم من حملها، ومرة بحجز زوجاتهم وأطفالهم، وثالثة بالاحتيال لإعادتهم إلى مكة، لكن شيئاً من ذلك كله، لم يعق موكب الهجرة، فالمهاجرون كانوا على أتم استعداد للانخلاع من أموالهم وأهليهم ودنياهم كلها تلبية لنداء العقيدة، ونصرة لدين الله وتأسيساً وإقامة لمجتمع الإيمان.
لقد ضرب المسلمون بهجرتهم أروع أمثلة التضحية من أجل الدين، فهذه أم سلمة تحكي قصة هجرتها مع زوجها وابنها، وهم أول أهل بيت هاجر، فلما رآه أصهاره مرتحلاً بأهله قالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها! أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد فأخذوا منه زوجته!، وغضب آل أبي سلمة لصاحبهم فقالوا: لا و الله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا! وتجاذبوا الغلام بينهم حتى خلعوا يده! وانطلق أبو سلمة مهاجراً وحده إلى المدينة، وحبست أم سلمة عند قومها وذهب قوم أبي سلمة بالولد! قالت: ففُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني! فكنت أخرج كل غداة بالأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريبا منها حتى مر بي رجل من بني عمي فرحمني، فقال لقومه ألا تخرجون هذه المسكينة، فرَقتم بينها وبين زوجها وولدها؟ فقالوا لي الحقي بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من أعمامه، وارتحلت بعيرها، فخرجت بولدها تريد المدينة ما معها من أحد من خلق الله. وفي الطريق لقيها عثمان بن طلحة، وكان مشركاً فأخذته مروءة العرب ونخوتهم فقال: ما لهذه من متْرَك فانطلق بها يقودها إلى المدينة، كلما نزل منزلاً استأخر عنها مروءة. كما قال صاحبه الجاهلي:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مثواها
فلما وصل قباء قال: زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله ثم انصرف رجعاً إلى مكة. فكانت أم سلمة رضي الله عنها تقول: و الله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة. وما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة.
قصة هجرة عجيبة، وأعجب منها موقف ذلك المشرك الذي صاحب هذه المرأة المسلمة التي ليست على دينه ليوصلها، وأحسن معاملتها، وغض بصره عنها طيلة خمسمائة من الكيلو مترات قطعها في أيام، ثم عاد إلى مكة دون راحة. فأي مروءة، وأي شهامة يتعلمها شباب المسلمون الآن من رجل كافر ملك نفسه وملك إرادته، وغض بصره، إنها سلامة الفطرة التي قادته أخيراً إلى الإسلام بعد صلح الحديبية.
ولعل إضاءة قلبه بدأت منذ تلك الرحلة مع المرأة المسلمة.
ومن الصور المضيئة لتضحيات المهاجرين رضي الله عنهم: هجرة صهيب رضي الله عنه فإنه لما أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك! و الله لا يكون ذلك! فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا نعم! قال: فإني قد جعلت لكم مالي. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ربح صهيب.
وهكذا أخذ المهاجرون يتركون مكة تباعاً، حتى كادت تخلوا من المسلمين، وشعرت قريش أن الإسلام أضحت له دار يأرز إليها، وحصن يحتمي به، فتوجست خيفة من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وهاجت في دمائها غرائز السبع المفترس حين يخاف على حياته فقررت قتل النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء على الدعوة التي أقلقت مضاجعهم. فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بمكرهم { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله ُ وَ الله ُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } … (الأنفال:30).
وأذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة، فجاء منزل أبي بكر نحو الظهيرة، وقد اشتد الحر في وقت لا يخرج فيه أحد عادة. لقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشاً ترصده فأراد أن يأخذ حذره، وعندما أُخبر أبو بكر بقدومه في هذا الوقت، عرف أن الأمر خطير، ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن الله أذن له في الخروج، قال: الصحبة يا رسول الله؟ قال: الصحبة! تقول عائشة: فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي! ووضع النبي صلى الله عليه وسلم خطة الهجرة مراعياً ما يمكنه من أسباب دون تواكل على النصر الموعود.
فقد اتفق مع أبي بكر على الخروج ليلاً إلى غار ثور. ومن جهة غير الجهة المعتادة التي يذهب الناس إلى المدينة منها، وأن يمكثا في الغار ثلاثة أيام حتى يخف الطلب عنهما. واستأجرا دليلاً ماهراً بمسالك الصحراء ليقودهما إلى المدينة، وقد استأمنه مع كونه مشركا، ودفعا إليه راحلتيهما اللتين كان أعدهما أبو بكر لذلك. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى إلا أن يدفع ثمن راحلته كي يبذل في الهجرة من ماله كما يبذل من نفسه! وزودتهما أسماء بالطعام.
وكان عبد الله ابن أبي بكر يتسمع لما يقوله الناس بالنهار ثم يخبرهما في الليل، فيعفى عامر بن فهيرة على آثار قدميه بأن يروح بغنمه عليها. كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يبيت في فراشه. ومع روعة التخطيط البشري واستفراغ الواسع، وأخذ الحيطة البالغة، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليركن إلى الأسباب، وإنما كان واثقاً بربه، متوكلاً عليه، موقناً بحسن تدبيره لنبيه، ونصرته لدينه، فحينما وجد فوارس قريش، وقصاص الأثر في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وانتشروا في الجبال والوديان، وصل بعضهم إلى فم الغار، حتى رأى الصديق أقدامهم، فخاف على النبي صلى الله عليه وسلم لأن مستقبل الأمة متعلق به، فقال: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ رأسه لرآنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر: ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! وقد أثنى الله على ذلك اليقين والتوكل التام بقوله: { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ الله َ مَعَنَا }... (التوبة: من الآية40).
ومن عظيم توكله صلى الله عليه وسلم وكمال يقينه ما جرى مع سراقة بن مالك، الذي علم أن قريشاً جعلت مائة ناقة لمن يدل على النبي صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتاً فتتبعهما بفرسه حتى دنا منهما، وكان أبو بكر يكثر الالتفاف خوفاً على النبي صلى الله عليه وسلم وإشفاقاً على الأمة أن تصاب في نبيها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتاً لا يلتفت، ولم يزد على أن قال لما علم بقرب سراقة: الله م اصرعه! فاستجاب الله له، فساخت قدما فرسه في الأرض. وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ممنوع، وأنه ظاهر، فطلب منه أن يكتب له كتاب أمان، وعرض على النبي صلى الله عليه وسلم المساعدة، فقال أخف عنا!، فأصبح أول النهار جاهداً عليهما، وأمسى آخره حارساً لهما.
وواصل النبي صلى الله عليه وسلم رحلته إلى المدينة. وتعددت مظاهر عناية الله له. وظهرت دلائل بركته. واشتد شوق أهل المدينة إليه لما علموا بخروجه. فكانوا ينتظرونه كل يوم، ولا يرجعون حتى يشتد الحر، فلما شرفت المدينة بمقدمه، لم يفرح الناس بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت النساء والصبيان والإماء يقولون: جاء رسول الله، جاء رسول الله.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخواله من بني النجار، وعمت الفرحة أرجاء يثرب التي تغير فيها كل شيء منذ ذلك اليوم، حتى اسمها، إنها الآن المدينة المنورة، مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وحتى سكانها، إنهم الآن أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }... (الحشر: من الآية9).