أهم الأخبار

الشائعات.. إرباك للمجتمعات وتدمير للطاقات

طباعة تكبير الخط تصغير الخط
 0 Google +0  0

خبر مثير أو وصفة عجيبة أو حدث غريب أو نبوءة مدهشة.. تنتشر أصداؤها في الناس انتشار النار في الهشيم.. إنها "الشائعات" التي لا يجمعها إلا جهالة المصدر "بؤرة مجهولة" مع ما فيها من غرابة وإثارة، وبين أوساط المكائد السياسية أو الحرب النفسية أو المنافسة التجارية أو لفت الأنظار أو حتى مجرد الفكاهة والتندر.. تنمو الشائعات وتتضخم وتترسخ في ثقافة المجتمع تارة أو تموت بعد فترة تارة أخرى.

 

أسباب ودوافع:

تعشش الشائعات وتفرخ إذا توافرت لها مناخات الجهل أو الأمية الثقافية، فالشائعات تموت على لسان صاحبها لولا وجود الجاهل الذي يجعل من الحبة قبة ومن القبة مزاراً.. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الناس ثلاثة: عالِم ربّاني، ومتعلِّم على سبيل نجاة، وهَمَج رَعَاع؛ أتْباع كلِّ ناعق، يَمِيلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق".

 

كما أن الفراغ والخمول والملل يولِّد الشائعات، فالعقول الفارغة يمكن أن تمتلئ بالأكاذيب، والأيدي المتعطلة تخلق ألسنة لاذعة، وقديماً سمى السلف مَن يجلس فارغاً بـ:"عاطل، بطَّال"، ومن سفلت همته ولم يجد بيئة كريمة تدفعه إلى العطاء والإنجاز؛ وَلَغ في حضيض التفاهة، ولم يُعرَف إلا بالقيل والقال!!

 

ولا يمكن أيضاً تجاهل دور الغموض في ترويج الشائعات، فالشفافية والمصداقية والوضوح تقتل الشائعة في مهدها وتحول دون انتشارها وتضخمها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"(1)، وقد تنطلق الشائعات من مرضى حب الظهور ومدعي الثقافة والرسوخ العلمي الوهمي أو الراغبون في تضخيم أنفسهم بادعاء اطلاعهم على دهاليز الأخبار وبواطن الأمور. ومما يزيد الطين بلة أن يكون هذا النمط من مروجي الشائعات ممن لهم علاقة بالجهة التي تعنيها الشائعة، وخاصة لو كانت جهة سيادية لا تتسرب منها الأخبار إلا بشق الأنفس، وهنا تكمن الكارثة وتنطلق الشائعة التي من الصعب أن توقفها بأي حال من الأحوال، والتي لها من القدرة التي تمكنها من هزيمة الحقيقية نفسها.

 

كيف تسري الشائعات:

لدى أي إنسان قناعة ذاتية بأنه يتلقى المعلومات لصورة واعية، ويفكِّر بمنطقية وحيادية في أغلب الأحيان، وأن آراءه وقراراته مبنية على منطقية تفكيره، ولكن الحقيقة أن أدمغتنا تدفعنا إلى اختيار المعلومات بصورة انتقائية والتي تنسجم مع قناعاتنا المسبقة، وفي أحيانٍ كثيرة نعجز عن ملاحظة التناقضات الصريحة في الأفكار بسبب سلطان عواطفنا".

 

ففي تجربة عجيبة ومثيرة أقيمت إبان الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2004م على عيِّنة مقسمة بين أفراد متحمسين جداً للمرشح (جورج بوش) أو المرشح (جون كيري). استخدمت في هذه التجربة تقنية "الرنين المغناطيسي الوظيفي" التي تصور ما يحدث داخل الدماغ أثناء التفكير، بحيث يعطي فكرة أدق للباحثين عن الأساس البيولوجي لانحيازاتنا.

 

كانت طريقة التجربة في عرض عبارات المُرشّحين بشكل صريح بالإضافة إلى عرض عبارات يمكن استخراج التناقض منها، ثم تصوير أدمغة أفراد العيِّنة أثناء تقييم هذه العبارات. ووجد الباحثون أنه حين تُقدم عبارات المُرشح المتناقضة إلى الأفراد المتحمسين لذات المرشح، فإن المراكز العاطفية في الدماغ تنشط، وبالتالي فلا يرون أي تناقضات. بينما حين تُقدم عبارات المُرشح الآخر المتناقضة فإن المراكز المتعلقة بالتقييم العقلاني هي التي تنشط ويكتشفون تلك التناقضات فوراً.

 

وهذا الأمر تكرر في كلتا المجموعتين، فاستنتج الباحثون أن الأخطاء التي ارتكبها أفراد العيِّنة حين كانوا يقيِّمون عبارات مرشحهم المتناقضة لا تعود إلى أخطاء في الاستدلال العقلاني أو نقص في المعلومات، بحيث لا يفيد معها لو درسوا كل علوم المنطق والفلسفة.. لأنهم بكل بساطة لم يكونوا يستخدمونها في التفكير لا من قريب ولا من بعيد.

 

أخطار جسام:

الشائعة حجر عثرة لا يستهان به، فهذه الأخبار التي لا تعدو مجرد كلمات، كم من أمة دمرتها وجيوش خذلتها وجماعات فرقتها وأفراد أقلقتها وأسر فككتها.. حطمت عظماء، ولوثت أبرياء، وشتت أصدقاء، وهدّمت وشائج، وتسببت في جرائم، وتدبر شائعة "الإفك" في بيت النبوة، والتي استمرت قرابة الشهر، والكل في المدينة يعايش محنتها بين خائض فيها ومتبرئ منها حتى نزل القرآن يغسل آثار هذه الفرية، ويعتبرها درساً تربوياً نجح فيه أقوام، ورسب فيه آخرون. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].. {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي لما تضمن ذلك من تبرئة أم المؤمنين ونزاهتها والتنويه بذكرها، ورفع الدرجات، وتكفير السيئات، وتمحيص المؤمنين.

 

بل نُسِب الافتراءُ على الله تعالى إلى كل الأنبياء من خصومهم، وبرَّأ اللهُ نبيَّه موسى مما أشاعه بنو إسرائيل عليه من المرض في جسده؛ فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69].

 

ترياق وبلسم:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:83].

 

وفي هذا ذمٌّ للذين ينقلون خبر السوء ويشيعونه بين الناس دون تعقُّلٍ في نتائج نقله، وما يحدثُ عنه من عظيم ضَررٍ، وكبير خطرٍ، وفيها تأديب من الله تعالى لعباده، يتضمَّن مبدأ التحفُّظ عند سماع الأخبار، والتثبُّت من أحوال نَقَلَتِها وظروف نَقْلها، وعدم التسرُّع في رواية الأخبار ونشرها. وفي هذا أيضاً توجيه من الله لعباده أيضاً إذا ثبَتَ عندهم الخبرُ فيما يتعلَّق بالأمور المهمَّة، والمصالح العامَّة للأمة؛ مثلما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه المصيبة في الدنيا أو الدين – أن يتثبَّتوا ولا يستعجلوا بإشاعة الخبر، والحُكم عليه دون رَويَّة، بل يردُّونه إلى الفضلاء من أهل العلم والحكم؛ بأن يردُّوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، وإلى أُولي الأمر منهم من بعد وفاته، وهم أهل الرأي والعلم والنُّصح، والعقل والرَّزانة، الذين يعرفون الأمورَ، ويعرفون المصالح وأضدادها، فإذا رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين، وسروراً لعباد الله الصالحين، وتقوية لمعنويّات المجاهدين، وتحرُّزاً من أعداء الدِّين – أشاعوه ونشروه، وإذا رأوا أنَّه ليس في إشاعته مصلحة، أو فيه مصلحة ولكنَّ مفسدته أرجح وأخطر، كتموه فلم يذيعوه، وعالجوه بأفضل ما رأوه.

 

وقال صلى الله عليه وسلم:
"كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع"(2).
"إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها [يعني ما يتثبت] يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب(3).
"بئس مطية الرجل زعموا"(4).

 

وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال". أي: الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبُّت، ولا تدبُّر، ولا تبيُّن. ومن أشد الأحاديث تحذيراً من إطلاق الشائعات حديث الرؤيا في صحيح البخاري رحمه الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلين، رجلاً قائماً على رأس رجل، وعند القائم كلوب مِن حديد، وكان يدخل الكَلوبَ في شِدْقِهِ حتى يَبْلُغَ قَفَاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، ويلتئم شِدْقُه هذا فيعود فيصنع مِثله، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عن ذلك، فقال: "هذا – الذي يُعذب – يُحَدِّث بالكذبة فتُحْمَل عنه حتى تَبْلُغَ الآفاق".

 

_____________________

(1)    متفق عليه.
(2)    رواه مسلم وابن حبان.
(3)    متفق عليه.
(4)    رواه البخاري في الأدب وأبو داود.