يكذب الإسرائيليون عندما يدعون أنهم أكثر شعوب المنطقة وعياً ورقياً، وأنهم أكثرهم ديمقراطية وإنسانيةً واحتراماً لحقوق الإنسان، وأنهم يحترمون القيم الإنسانية والمعاني البشرية، وأن جيشهم هو الأكثر مناقبية عسكرية، والأكثر انضباطاً والتزاماً، وأنهم يتحلون بالشفافية والإنصاف، ويحاسبون المخطئ، ويعاقبون المسيئ، ويقصون الفاسد، ويعزلون المتجاوز، ويبعدون عن المناصب والسلطة والقرار المريض والمنحرف والشاذ، ولا يسمحون للتطرف أن يحكم، ولا للتشدد أن يقرر، ويخضعون أحكامهم للقانون، ويخضعون لقرارات القضاء والمحكمة العليا التي تنقض بعض القرارات وتعطلها، فلا تقوى الحكومة على تجاوز أحكامها، ضمن ذهبيةِ الفصل بين السلطات، وفي أبهى مظاهر سيادة القانون واستعلاء القضاء.
الإسرائيليون يعرفون إنهم يكذبون على أنفسهم قبل أن يكذبوا على الآخرين، ويتظاهرون أمام العالم بما ليس فيهم ولا عندهم، فهم براءٌ من كل ما يدعون زوراً وبهاتاً انتسابهم للإنسانية حضارةً وقيماً، وهم أبعد الشعوب عن الإنسانية وأكثرهم إساءةً لها وتحقيراً وتعنيفاً للإنسان، والشواهد على ارتكاسهم الأخلاقي عديدة، وانتكاسهم القيمي عميق، ودلائل انحدارهم في مستنقع العنصرية كثيرة، إذ هم أكثر الجماعات عنصريةً في العالم، فهم لا ينكرون فوقيتهم وساميتهم، وعلوهم ومثاليتهم، وأنهم أحباب الله وشعبه المختار، ومع أن الأمم المتحدة ألغت قرارها الشهير باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، فإن هذا الإلغاء التي تم بالقوة والضغط والإكراه، لا يلغي الحقيقة الأولى أن الصهيونية هي الشكل الأوضح والأتم للعنصرية.
الإنسانية ليست درجات ومستويات، تكون لدى البعض وتمنح لفئةٍ من الناس وتحرم منها فئةٌ أخرى، بل هي خلقٌ وشيمةٌ، وسجالٌ وصفات تتحلى بها الأمم العظيمة والشعوب الرسالية، التي تحفظ الإنسان وتكرمه، وتصونه ولا تنتهك حقوقه، والإسرائيليون أبداً ليسوا من هؤلاء، ولا يمكن أن يكونوا منهم أو أن ينتسبوا إليهم، ويخطئ من يصدقهم ويؤمن بروايتهم، ويعتقد بأنهم شعب الله المختار من بين البشر لخلقٍ قويمٍ فيهم، وشيمٍ عالية تميزهم، بل هم على النقيض من ذلك أبداً، وكانوا على مر العصور كلها يُعرفون بين الخلق ولدى الأمم، أنهم الأكثر قذارةً، والأبخل مالاً والأسوأ ربا، والأجشع نفساً والأطمع خَلقاً، والأردأ خُلقاً والأنقض عهداً، يبتزون الحكومات، ويضغطون على الشخصيات، ويساومون على المنافع والمصالح، ويحاربون الخير حيث كان، ويعادون الفضائل وقيم الأخلاق.
سلطات الاحتلال الإسرائيلي تتعمد إيذاء النفس الفلسطينية، وتعذيب المواطنين والضغط على أعصابهم، وهي تعذبهم بخسةٍ ونذالةٍ لا يقوم بها إلا مرضى النفوس وخبيثو القلوب، ولعلها تلجأ إلى ما لا تلجأ إليه الحيوانات الضارية في غاباتها، إذ تتعامل بحقدٍ، وتتصرفُ بكرهٍ، وتحركها غرائزٌ عنصريةٌ مقيتةٌ، ترى في نفسها الفوقية، وفي جنسها الرقي وفي حياتها العلو، وكل من دونها خدمٌ لها أو عبيدٌ عندها، حياتهم رخيصة، وأرواحهم شريرة، بل إنهم يضرون أكثر مما ينفعون، كما عبر عن ذلك أحد حاخاماتهم الكبار، داعياً إلى حبس الفلسطينيين في زجاجاتٍ، لأنهم حشراتٌ ضارة وأفاعي سامة.
هذا هو العدو الإسرائيلي في حقيقته العنصرية، وفي جوهره المريض، فهو يتعمد قتل الفلسطينيين بين أهلهم، وإطلاق النار عليهم أمام العامة ولو كان من بينهم أطفالٌ وصغارٌ، ويعتقلهم من بين أطفالهم وكأنه ينزعهم من بين قلوبهم والحنايا، ونحيب النساء، وهو يداهم بيوتهم في أفراحهم، ويعتقل العريس ليلة زفافه، ويقتحم المستشفى ويخطف المرضى من على أسرتهم وهم يئنون ويتوجعون، وربما ينزفون ويعذبون، وتسره الدمعة على عيون الأمهات، والآهة من صدور الرجال، وصوت بكاء الأطفال يشجيهم، وصيحات الألم تطربهم، أما المشاعر الإنسانية فهو لا يعترف بها، ولا يؤمن بقيمتها، ولا يهمه تقديرها أو احترامها، بل يتعمد سحقها وانتهاكها، ويحرص على الإمعان في المس بها، ليبدو أكثر جبروتاً وأشد عنفاً.
هي ذات النفس الخبيثة المريضة التي تحتجز جثامين الشهداء وتمنع دفنهم، وتحول دون تسليمهم لأهلهم وأسرهم، وتضع عليهم شروطاً قاسية، وتطلب منهم تعهداتٍ كثيرة، وتقوم بنقلهم إلى أماكن خاصة، أو تحتفظ بهم في برادات المستشفيات، علماً أن عدد الشهداء الذين تحتجز جثامينهم منذ بدء الانتفاضة الثالثة وحتى اليوم بلغت ثلاثة وخمسين جثماناً، منهم ثلاثة عشر شهيداً طفلاً، وشهيدةً مسنةً من مدينة الخليل، وكانت تحتجز آخرين، إلا أنها أفرجت عن قلةٍ منهم وأبقت على غالبيتهم أسرى لديها، وما زالت تساوم أهلهم، وتفاوض ذويهم مستغلةً عواطفهم تجاه أولادهم، ومشاعرهم الإنسانية الطبيعية التي تحب أن يكون لأولادهم قبرٌ يزورونه ويبكون عليه، ويعملون له شاهداً ويكتبون اسمه عليه، ليكون دالاً عليهم، ومفخرةً لهم، وشامةً تزين جبينهم.
الإسرائيليون بفعلتهم بفعلتها النكراء لا يحبسون عقاراً أو مالاً، ولا يحتجزون سيارةً أو بضاعة، يحزن عليها أصحابها لفترةٍ، ويصبرون على غيابها إلى حينٍ، وقد يحتسبون أمرهم على الله وينسون خسارتهم، ويسألون الله عز وجل العوض الحسن وعظيم الجر والثواب، لكنهم يحتجزون نفساً وإن قتلت، وروحاً وإن ارتقت وذهبت، وهم يعلمون أن كرامة الميت دفنه، وحقه في الدنيا بعد الممات قبرٌ يجمع رفاته، ويحافظ على كرامته الإنسانية.
لكن الذين ارتكبوا المجازر ونفذوا المذابح، وأشرفوا على التهجير والترحيل، والذين قتلوا الأسرى بعد أن حرموهم من الماء وعطشوهم، وجمعوهم في معسكراتٍ وقتلوهم، ودفنوهم في مقابر جماعية، وقد دفنوا بعضهم وهم أحياء أو جرحى يئنون وينزفون، ليس بعيداً عليهم ولا مستنكراً منهم أن يرتكبوا مجازر جديدة، وأن ينفذوا إعداماتٍ ميدانية، وأن يقتلوا الأطفال بحجة أنهم يحملون سكيناً أو ينوون مهاجمة مستوطنيهم.
إنها الجبلة الإسرائيلية المريضة بل هي الطبائع اليهودية الخبيثة، التي يجب أن ننتبه لها ونحذر منها في هذه الانتفاضة المباركة، فهم لن يتوانوا عن اقتراف أي محرمٍ، أو ارتكاب أي ممنوعٍ في سبيل إنهاء هذه الانتفاضة، التي تقلقهم بجد، وتدفعهم للتفكير في كل السبل الشيطانية للسيطرة عليها، ولكنهم يحلمون إذ يظنون أن هذا الشعب لا يعرفهم، ويخطئون إذا ظنوا أن هذا الجيل سيخافهم وسيسكت لهم، وسيخضع لإرهابهم.