الأبارتهايد ضد فلسطيني الـ 48 وأهمية تدويل قضيتهم
عوض عبدالفتاح
في الثلاثين من شهر كانون الثاني /يناير الحالي، ستحضر لأول مرة قضية فلسطينيي الـ48 في ميادين العواصم والمدن العالمية كقضية سياسية. وبغض النظر عن حجم المشاركة المتوقعة، فإن للحدث بعد استراتيجي، سياسي ووطني وأخلاقي هام.
إن تحديد يوم عالمي لمساندة قضية فلسطينيي الـ48 الذي يقارب عددهم 1,4 مليون، جاء بقرار من “لجنة المتابعة العليا لشؤون المواطنين العرب في الكيان”، بعد أن أقدم نظام الأبارتهايد الكولونيالي الصهيوني على قمع حركة سياسية مركزية هي الحركة الإسلامية (17.11.2015).
وقد كان رد فعل الأحزاب والحركات والهيئات التمثيلية العربية الفلسطينية على حظر الحركة وعلى التهديد بإخراج حزب التجمع الوطني الديمقراطي عن القانون، كما صرح وزير الحرب الصهيوني موشي يعلون بعد أسبوع من حظر الحركة، موحدًا وقويَا ضد قرار الحظر، وعبر عن الوقوف الجماعي إلى جانب الحركة الإسلامية. وارتأت قيادات فلسطينيي الـ 48 ضرورة أن يكون اليوم العالمي تحت عنوان وطني جامع، أي مساندة وحماية حقوق الفلسطينيين في الكيان. وهذه الخطوة سيكون لها ما بعدها.
إن حظر الحركة الإسلامية لم يأت معزولاً أو منفصلاً عن سياق النزعة العدوانية الصهيونية الرسمية والشعبية، ضد الوجود الفلسطيني في المنطقة المحتلة عام 1948.
لقد كان الوجود الصهيوني منذ البدء، وتجسيده دولة الكيان، تعبيرًا عن نزعة استعمارية عدوانية ضد الشعب الفلسطيني برمته. وكان الفلسطينيون الذين كانوا مقيمين في وطنهم، ضمن حدود خطوط الهدنة، الضحية الأولى المباشرة للمشروع الصهيوني؛ إذ تمّ طرد معظمهم من الوطن، ولا زالوا لاجئين محرومون من العودة.
أما الجزء الذي نجا من الطرد، 150 ألف آنذاك، خضع لحكم عسكري شديد الوطأة، ولسياسات نهب الأرض وللملاحقة والقمع. هذا كله حدث قبل أن تغزو الحركة الصهيونية ما تبقى من فلسطين- الضفة والقدس الشرقية وقطاع غزة عام 67 لتصبح فلسطين كلها، بالإضافة إلى سيناء والجولان تحت سيطرة المشروع الاستعماري الصهيوني.
على مدار عشرين عامًا، منذ عام 1948 الى 1967، تعامل الغرب، مع “إسرائيل” كدولة طبيعية وكديمقراطية وحيدة في المنطقة العربية، في حين كان يخضع من بقي داخل “إسرائيل” من الفلسطينيين حاملي المواطنة الإسرائيلية لحكم عسكري ونهب الأرض ولنظام فصل عنصري.
كما خضع من كان من المفروض أن يبقى مواطنًا في الدولة الجديدة، حسب قرار التقسيم الظالم، لنظام فصل عنصري، نظام أبارتهايد. أي، لقد تم فصل معظم فلسطينيي الـ 48 عن وطنهم عبر طردهم ومنعهم من العودة وإنكار مواطنتهم. وتكرس ذلك بقانون العودة الصهيوني، الذي حصر حق الهجرة إلى ما أصبح يُعرف بـ”إسرائيل”، باليهود فقط. وهكذا أصبحت “إسرائيل” دولة اليهود الذين هاجروا إلى “إسرائيل”، واليهود الذين لا يريدون أن يهاجروا.
هكذا تم تشييد نظام أبارتهايد كولونيالي في فلسطين منذ عام 1948، يتفق في الجوهر مع نظام الأبارتهايد البائد في جنوب أفريقيا، ويختلف في بعض التفاصيل، مثل منح حق التصويت لمن بقي من الفلسطينيين داخل حدود “إسرائيل”.
وهذه التفاصيل الشكلية، إضافة إلى الارتباط العضوي بين الامبريالية الغربية والحركة الصهيونية وتجسيدها “إسرائيل”، ساهمت في التغطية على حقيقة “إسرائيل” وفي حجب ممارساتها العنصرية عن الرأي العام العالمي.
كما أنه تم تجاهل ان هذه الدولة هي واقع استعماري، كما كتب المفكر الفرنسي اليهودي ماكسيم رودنسون في السبعينيات (كتابه: إسرائيل واقع استعماري). ولسنوات طويلة، ظلت طبيعة “إسرائيل” الحقيقية، وقضية فلسطينيي الـ48، غير مكشوفة لغالبية الرأي العام العالمي. بل بعد حرب عام 67، جرى تكريس وشرعنة دولة “إسرائيل” كدولة طبيعية.
وتم التعامل مع احتلالها للضفة وقطاع غزة كإجراء مؤقت أو طارئ وليس امتدادًا عضويًا للمشروع الاستعماري. ما معناه أن الاحتلال هو واقع مؤقت، وسيأتي يوم يزول هذا الاحتلال وتعود “إسرائيل”، التي تعرّف نفسها كدولة يهودية، إلى طبيعتها السابقة الموهومة.
ديناميكيات التطور في أوساط فلسطينيي الـ48
لقد مرّ المجتمع الفلسطيني خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة بتحولات جذرية، اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا، وتشكلت لديه حركات سياسية وأطر تمثيلية جامعة. وقد تطور سقف مطالبهم بصورة طردية مع تطور الوعي الوطني والسياسي والمدني. وقد فرض عليهم اتفاق أوسلو تحديات جديدة بعد أن أخرجوا من الحل، قادتهم إلى تطوير معادلة سياسية مبلورة تمثلت في تحدي يهودية الدولة عبر طرح دولة المواطنين.
ما وصل إليه المجتمع الفلسطيني داخل الخط الأخضر، على المستوى السياسي، الاجتماعي، والثقافي، هو في الأساس حصيلة تطورات ديناميكية داخلية، والتي تشمل ديناميكية العلاقة مع الواقع الإسرائيلي.. الذي يطبع حياة المواطنين العرب بسمات تختلف عن إخوانهم في بقية فلسطين والشتات.
ومنذ الانتفاضة الثانية، وعلى أثر مشاركتهم الفاعلة في الحراك الشعبي لصالح النضال الفلسطيني في الضفة والقطاع، بدأت الفوارق تتراجع في مجال تعامل إسرائيل معهم. لقد أعادت تشخيص المواطنين العرب كعدو داخلي، إضافة كخطر ديمغرافي. وتحولوا مجددًا إلى مادة للبحث والتفكير في المؤتمرات السنوية، الأمنية والسياسية التي تعقدها مؤسسات الدولة العبرية.
وتراوحت السياسات الجديدة بين الاحتواء والقمع الشديد، وكثافة مخططات هدم البيوت، ومحاولات فرض الولاء للدولة ولرموزها. ولكن مع استفحال التطرف والنزعة العدوانية داخل النخب الإسرائيلية والمجتمع، يزداد الانشغال بواقع ومصير عرب الداخل.
وهم الآن يشكلون إحدى أكبر المعضلات التي تواجهها “إسرائيل”. وليس دخول رئيس الهرم السياسي في الدولة العبرية على خط التحريض الدموي السافر والصريح على المواطنين العرب إلا انعكاسًا لهذه المعضلة الكبيرة. إن الكيان الإسرائيلي، نخبًا ومجتمعًا، يعيش حاليًا حالة من الخوف والذعر وفقدان الأمن، خاصة بعد انفجار الموجة الانتفاضية الراهنة.
نقاط قوة المجتمع الفلسطيني
تنبع حيرة وتخبط المؤسسة الصهيونية إزاء التعامل مع المواطنين العرب، من كونهم يمتلكون نقاط قوة كثيرة..
أولاً: من كونهم مواطنين، إذ فرضت إسرائيل المواطنة عليهم بعد النكبة مباشرة، في الوقت الذي كانت ترغب بعدم وجود أي عربي، لأن هدفها منذ الأصل تمثل في دولة يهودية صرفة.
ثانيًا: كون الفلسطينيين في إسرائيل اعتمدوا النضال الشعبي المدني والقانوني والبرلماني، وهذا يُقيّد آلة القمع الإسرائيلي ويمنع تنفيذ ترحيل خارج الحدود أو خطوات أخرى متطرفة جدًا.
ثالثًا: التجربة السياسية الغنية التي بلورها على مدار عقود من مقارعة مؤسسات الدولة العبرية وتطوير سقف لمطالبهم يقوم على المبادئ الكونية كالمساواة والعدالة.
رابعًا: تحدّي يهودية الدولة عبر طرح مطلب المساواة والمواطنة الكاملة، الذي يضعها أمام حرج شديد وفي حالة دفاع عن نفسها. فالدولة التي تدعي الديمقراطية، وعلى أساس الديمقراطية الغربية، ليس لديها حجة مقنعة لماذا تحجب المساواة عن جزء من مواطنيها وتواصل نهب مواردهم الطبيعية.
ونتيجة عجزها عن تقديم حل أخلاقي يقوم على القيم الكونية، باتت إسرائيل تفصح عن قيم عرقية صارخة، وتندفع إلى الدفاع عن يهوديتها على حساب ديمقراطيتها. وهذا يُحدث تآكلاً مستمرًا في شرعية “دولة إسرائيل” كدولة ديمقراطية وفي مكانتها الدولية.
خامسا: وزنهم الديموغرافي الذي يشكل 20% من عموم سكان إسرائيل، والذي يشكل عقبة أمام الاستيلاء على ما تبقى من مواردهم (الأرض تحديدًا) ومن الحيّز العام.
وعندما تشتد حملة أصحاب السكان الأصليين في فضح صورة إسرائيل، وتتكثف الدعوة إلى محاصرتها، وبمشاركة الأصوات العاقلة داخل إسرائيل والعالم، تزداد عدوانية نظام الأبارتهايد. وعندما يُطّور أصحاب البلد استراتيجياتهم المناهضة للعنصرية، دون اللجوء إلى العنف، يزداد مأزق هذا الكيان فيلجأ إلى المزيد من التحريض والعداء والانفلات.
حضور قضية فلسطينيي الـ48 هو أيضًا حضور القضية كلها
ليس الإعلان عن يوم عالمي لمساندة حقوق الفلسطينيين في “إسرائيل”، سوى تتويج لنشاط متواصل، تقوم به أطر مدنية، وجمعيات قانونية، وأكاديميون، وسياسيون من أوساط فلسطينيي الـ48، منذ أكثر من عشرين عامًا وقد كانت صدرت دعوات في السابق، لحماية دولية لفلسطينيي الـ48، كجزء من اجتهاد لتدويل فعلي لقضيتهم. ومن المفترض أن يشكل حضور قضية فلسطينيي الـ48 حضورًا لقضية فلسطين بكليتها.
الجديد في الأمر هو أن هذا النشاط العالمي يمثل خطوة وحدوية الأولى من نوعها على مستوى فلسطين الـ48العالمي. وهي خطوة كانت مطلوبة منذ سنوات طويلة، في سياق الحاجة إلى تعريف الرأي العام العالمي بالظلم اللاحق بهذا الجزء من الشعب الفلسطيني وبالمخاطر التي تواجههم. ويمثل هذا النشاط الذي يجري التحضير له تطورًا للاتجاه الوحدوي الذي بدأ يبرز أكثر في الأعوام القليلة الماضية، من خلال البدء بإعادة تنظيم لجنة المتابعة العليا، وإقامة القائمة المشتركة، والأهم في التجربة الكفاحية الوحدوية ضد مخطط برافار الاقتلاعي الذي اضطرت حكومة إسرائيل إلى تجميده عام 2013 بعد المواجهات العنيفة في الشوارع الرئيسية.
إن لهذا النشاط العالمي أهمية استراتيجية بالنسبة لوحدة القضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني، وكذلك بالنسبة لحملة المقاطعة العالمية ضد “إسرائيل”.
بخصوص وحدة القضية؛ إن من شأن تنظيم نشاطات عالمية لمساندة حقوق فلسطينيي الـ48 تعزيز الجماعة الفلسطينية (الشعب الفلسطيني) التي تمر الآن في حالة تشتت وتجزئة وصراعات داخلية حتى في الجاليات الفلسطينية في أوروبا وأمريكا.
إن قضية فلسطينيي الداخل تحظى بموقف موحد من كافة الفلسطينيين في العالم، لأنهم غير متورطين في الانشقاق في الحركة الوطنية الفلسطينية، ناهيك عن إعجاب الفلسطينيين في الخارج بالتجربة السياسية والوحدوية لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني.
هذا معناه أن تفعيل الجاليات الفلسطينية، وأصدقائهم في الغرب، وايضًا في كل مكان، في مساندة الوجود الفلسطيني داخل منطقة 48 من شأنه خلق حالة أفضل من التضامن والتعاون الداخلي بين مركبات النشاط السياسي في الخارج، وبالتالي يصبّ هذا في ما يمكن أن نعتبره صيرورة إعادة بناء الجماعة الفلسطينية والحركة الوطنية الفلسطينية، وإعادة الوعي بالحقوق الفلسطينية التاريخية في إطار إعادة تعريف الصراع وبناء المشروع الوطني الفلسطيني. وهي صيرورة جارية خارج البنى السياسية والهياكل التقليدية القائمة في السنوات الأخيرة، ينخرط فيها هيئات وأطر من كل فلسطين التاريخية ومن الشتات؛ لجان العودة، لجنة المقاطعة، دوائر أكاديمية وبحثية، ومجموعات شبابية عديدة، وشباب الموجة الانتفاضة الراهنة.
أما على مستوى حملة المقاطعة؛ فإن تكثيف حضور فلسطينيي الداخل، وقضيتهم في الميادين الدولية، يُعزز حركة التضامن العالمية مع القضية الفلسطينية، في الوصول إلى قطاعات جديدة من الرأي العام العالمي، وإطلاعهم على وجه آخر لـ”إسرائيل” غاب عنهم بفعل الدعاية الصهيونية ودعم حكومات الدول الغربية.
ولتوضيح هذا الأمر، فإن إخفاء قضية التمييز ضد فلسطينيي الـ 48 لفترة طويلة خفف الحملة ضد اسرائيل، بحيث ظلت “إسرائيل” تُعرض بدون احتلال الضفة والقدس وحصار القطاع، كدولة طبيعية وديمقراطية.
ولكن نجاح المواطنين العرب وقواهم السياسية بفضح هذا الجانب وإيصال كل الممارسات العنصرية التي تُنفذ ضدهم إلى الخارج، جعل “إسرائيل” عارية تمامًا من ادعاءاتها بالديمقراطية أمام قطاعات متزايدة من الرأي العالمي.
لم يكن أن يحصل ذلك بدون نهوض الفلسطينيين في إسرائيل، وتواصلهم مع الجاليات الفلسطينية في الخارج، ومع المتضامنين الأجانب، والأكاديميين والمثقفين منهم. لقد قدّم هذا النشاط والحراك مواد دعائية لهم يستعملونها في التصدي للدعاية الصهيونية.
أما المسألة الأخيرة، فتتمثل في ما يمكن أن يُفيد فلسطينيي الـ48 مباشرة من هذه الخطوة. هناك من يعتقد أن تصعيد الحملات الإعلامية والسياسية ضد “إسرائيل” في الخارج، ورفع مستوى الخطاب السياسي والمطالب، يؤدي إلى زيادة النزعة العدوانية الإسرائيلية ضدنا.
ولكن الحقيقة هي أن هذه الاستراتيجية، التي تحتاج إلى تطوير دائم، تقوي وحدة وكفاح فلسطينيي الـ 48. إن هذا النشاط السياسي والوحدوي المتصاعد، يُعزز روحهم الجماعية ويزيد من نجاعة نضالهم.. وهذا يخلق ديناميكية (تفاعلات) داخل العمل الوحدوي الذي قد يدفع أكثر نحو مأسسة الوحدة وبلورة الجماعة الوطنية المترابطة، ويفتح الآفاق أمام الطاقات الجديدة، وأمام الأجيال الشابة لتعطي أكثر في هذه المسيرة.
لقد ثبت أن اللغة الانبطاحية، والسلوك الاستجدائي، في تجربتنا وفي تجارب شعوب أخرى، لا يزيد الضحية إلا ذُلاً ولا يزيد المستعمر إلا استعلاءً وعداءً، ويساعد نظام القهر العنصري على تعميق الشرخ داخل صفوف الشعب عبر تصنيف الحركات السياسية كمتطرف ومعتدل. إن السلوك الاستجدائي ليس سلوكًا، لأنه ليس سلوكًا سياسيًا واقعيًا ولا مسؤولاً.
إن اعتماد خطاب وطني وديمقراطي متماسك وواضح، عقلاني ومسؤول، وكذلك اعتماد رؤية لموقع ومكانة عرب الداخل في المعادلة السياسية المدنية والوطنية، وفي معادلة الحقوق المشروعة، واعتماد استراتيجية العمل المنظم على المستوى الدولي، كل ذلك يُضيف قوة لوجودنا ولنضالنا وحماية لنا من جنون نظام الأبارتهايد.
إن للفلسطينيين داخل “إسرائيل”، مصادر قوة كبيرة، بالإضافة إلى نقاط ضعفنا الكثيرة والجدية. ولولا أن لدينا قوة لما جعلتنا “إسرائيل” محط هجوم وتحريض يومي.