بقلم: د. مصطفى اللداوي
اعتاد المرشحون للرئاسة الأمريكية في برامجهم الانتخابية التعهد بنقل سفارة بلادهم لدى الكيان الصهيوني إلى مدينة القدس، والاعتراف بها عاصمةً أبديةً موحدةً، وذلك كأوضح موقفٍ وأقوى إجراء تطميني وداعمٍ من الممكن أن تتخذه الإدارة الأمريكية تجاه الكيان الصهيوني، الذي يتطلع منذ سنواتٍ طويلةٍ إلى هذه النقلة النوعية، ويتوقع تنفيذها من كل رئيسٍ أمريكي يدخل إلى البيت الأبيض، إلا أنهم جميعاً يتراجعون عن تعهداتهم الانتخابية، رغم أنها كانت تبدو عند إعلانها جديةً وحاسمةً، ولكن يبدو أنهم يستغلونها فقط لكسب المزيد من الأصوات اليمينية المسيحية المتشددة، فضلاً عن الأصوات اليهودية الأمريكية، وهو الأمر الذي جعل من هذا التهديد شعاراً مرفوعاً في كل الانتخابات الأمريكية، وورقةً رابحةً يلجأ إليها كل مرشحٍ للرئاسة.
علماً أن السفارة الأمريكية وقنصليتها موجودة منذ تأسيس الكيان الصهيوني في مدينة تل أبيب، فضلاً عن وجود قنصليةٍ مستقلةٍ في مدينة القدس، تقوم بمهام السفارة والقنصلية معاً، ولها حرمٌ ومقامٌ فسيحٌ، وعليها حراسة مشددة ولها حماية كبيرة، وللسفير الأمريكي فيها مكتبٌ ومقر، وترعى مواطنيها وتتابع شؤون رعاياها، إلا أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة ترفض الإعلان رسمياً عن انتقال سفارتها إلى مدينة القدس، حيث تحرص على الإبقاء على ملفها مفتوحاً على كل الاحتمالات، وهي على الرغم من اعترافها بأن مدينة القدس هي عاصمة الدولة العبرية، إلا أنها لا تتفق مع الإسرائيليين كلياً على أنها العاصمة الأبدية والموحدة لكيانهم، وأنه لا حق للفلسطينيين فيها أو على جزءٍ منها.
لكن يبدو أن الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب جادٌ هذه المرة في تهديداته، وأنه عازمٌ فعلاً على نقل سفارة بلاده إلى مدينة القدس، وهو غير عابئٍ بالرأي العام، ولا يلتفت إلى الغضبة العربية والإسلامية فضلاً عن الفلسطينية، وقد لا يعيرها اهتماماً، بل يريد أن يكون مختلفاً في أقواله وتصريحاته عن الرؤساء الأمريكيين السابقين، الذين كانوا يتراجعون عن وعودهم حال دخولهم إلى البيت الأبيض، ويرى أنهم ينقصون من سيادة بلادهم ويهينون كرامتهم عندما يتراجعون عن مواقفهم، خوفاً من المسلمين أو إرضاءً للرأي العام العربي.
ولهذا فقد أرسل بالفعل وفداً خاصاً لزيارة الكيان الصهيوني، لإعداد تقريرٍ مفصلٍ عن مكان السفارة الحالي في مدينة تل أبيب، وعن تصورهم عن المكان الجديد للسفارة والقنصلية في مدينة القدس، وعن طبيعة البناء وشكله الذي يتناسب مع عمل وأداء السفارة، فضلاً عن الرسالة السياسية التي ستؤديها إدارته بانتقال السفارة إلى مقرها الجديد، وقد بدا من خلال الوفد الذي كلفه بهذه المهمة جديته وحزمه، وقد رحبت حكومة نتنياهو بخطواته، وأبدت استعدادها الكامل للتعاون مع الفريق الرئاسي وتقديم كل التسهيلات الممكنة له، لتضمن نجاحه في المهمة الموكلة إليه.
ومما يزيد من هذا الاحتمال جديةً وخطورةً أنه عين المحامي دافيد فريدمان سفيراً لبلاده لدى الكيان الصهيوني، وهو الذي كان مستشاراً له إبان الحملة الانتخابية لشؤون العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، والذي صرح إثر تسميته سفيراً بأنه يأمل أن يكون أول سفيرٍ لبلاده يمارس دوره وعمله من مدينة القدس، العاصمة الأبدية والموحدة لدولة “إسرائيل”.
علماً أن دافيد فريدمان المعروف بنزعته العنصرية، يؤيد السياسة الاستيطانية الإسرائيلية ويدافع عنها، ويشارك في حملات تمويلها وجمع التبرعات لها، وهو يشغل منصب رئيس منظمة “الأصدقاء الأميركيين لمستوطنة بيت إيل”، والتي قدمت للمستوطنة ملايين الدولارات في السنوات الأخيرة، وهو يعلن تأييده ليهودية الدولة العبرية، ويرفض حل الدولتين، ولا يرى للفلسطينيين حقوقاً في “الأرض الموعودة لشعب إسرائيل”، بل إنه ينكر وجود الشعب الفلسطيني ولا يعترف به، ويدعو الحكومة الإسرائيلية إلى ضم الضفة الغربية إلى حدود الدولة العبرية، ويحذرها من مغبة التنازل عن أي جزء من “أرض إسرائيل” لصالح تشكيل دولة فلسطينية.
ولعلنا نتصور كيف ستكون شبكة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، في ظل إدارة دونالد ترامب وسفيره فريدمان إلى الكيان الصهيوني، في ظل تصريحاتهما المتوالية المؤيدة لإسرائيل والمناهضة للمسلمين والعرب والفلسطينيين، وعقب ترشيحات ترامب لكبار مساعديه في الخارجية والدفاع والمالية وموظفي البيت الأبيض من التيارات اليمينية المؤيدة لإسرائيل، والكارهة للعرب والمسلمين، والتي تخطط علناً للانقلاب على كل التفاهمات السابقة وعدم الاعتراف بها، طالما أن الحكومة الإسرائيلية تعارضها وترفض القبول بها.
لا ينبغي أن تخيفنا التهديدات الأمريكية، ولا أن ترعبنا إذا نفذت وصارت حقيقة، إذ ما الذي سيضيفه مقر سفارتهم في القدس، وهم يوغلون من تل أبيب في مساعدة الإسرائيليين، ويبالغون في الدفاع عنهم، ويدافعون عن وجودهم، ويعززون بالقوة وجودهم، دون اعتبارٍ للشرعية والقانون.
وهل أن وجودها في مدينة تل أبيب كان يمنع الدبلوماسيين الأمريكيين من ممارسة مختلف أنشطتهم في مدينة القدس، إذ فيها يقيمون ويستقبلون ضيوفهم، ويلتقون بمبعوثيهم، وهل أن انتقالها إلى القدس سيغير من السياسة الأمريكية تجاه الفلسطينيين نحو الأسوأ، وسيضيف عقباتٍ جديدةً أمامهم، وسيؤخر قيام دولتهم أو عودة شعبهم من شتاته.
وهل أنها كانت قبل ذلك تعترف بمدينة القدس أو بشطرها الشرقي على الأقل أنها مدينة فلسطينية محتلة، وتتعامل مع الفلسطينيين على أنها حقٌ لهم، أم أنها كانت ولا زالت تعترف بالقدس عاصمة أبدية تاريخيةً موحدة للكيان الصهيوني، لا يشاركهم الإقامة فيها والسيادة عليها أحدٌ.
واهمٌ من يظن أن نقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس يهدد السلام، ويقوض مسار المفاوضات، ويحكم بالفشل على العملية السلمية أو يدمرها بالكلية وينهي الآمال المعلقة عليها، فهل أن السفارة الأمريكية في تل أبيب قد أنقذت السلام، وساعدت على انطلاق مسيرة المفاوضات، وهل كان لها دورٌ في حماية الشعب الفلسطيني وصون حقوقه، حتى نخاف على أوضاعنا في حال انتقلت إلى القدس، أم أنها ساعدت من مكانها في تأزيم القضية الفلسطينية، وعقدت الوصول إلى تسوياتٍ مع أهلها.
لا ينبغي أن نتوسل إليهم، ولا أن نتودد إلى إدارتهم الجديدة لتتراجع عن قرارها، أو تتوقف عن تنفيذ تهديداتها، إذ كما أنه لا تغيير في سياستهم معنا، فإنه لا فرق لدينا بين القدس وتل الربيع، ولا بين يافا والرملة، أو اللد وأسدود، أو حيفا والطيرة، فكلها أرضنا الفلسطينية المحتلة، لا نمايز بينها، ولا نفضل واحدةً منها على الأخرى، بل كلها أرضنا العربية العزيزة الغالية … فلسطين.