بقلم:د. وليد القططي
بعد أيام من اغتيال الشهيد الأسير المُحرر مازن الفقهاء على يد أجهزة الأمن الإسرائيلية، ونظراً لدور العملاء في عملية الاغتيال بالتنفيذ الفعلي المباشر أو بتقديم الدعم المعلوماتي واللوجستي للعدو، فقد بدأت وزارة الداخلية وأجهزة الأمن في غزة بحملة أمنية جديدة ضد العملاء في غزة، ولقد وصف موقع المجد الأمني الإلكتروني هذه الحملة بــ "أن الاحتلال وعملاءه سيتعرّضون لضربة أمنية قوية خلال الفترة المقبلة عنوانها قص أجنحة العدو الأمنية على أرض غزة، وملاحقة عملائه ومصادر معلوماته وبترها وتأمين ساحة غزة لتكون درعاً حصيناً للمقاومة ورجالها.". ولدراسة ظاهرة العملاء وتمشياً مع الحملة الأمنية من المفيد البحث في شروط صناعة العملاء ومدخلاتها، وفي مقدمة هذه المُدخلات العامل الموضوعي والعامل الذاتي والعامل الضاغط تؤدي مجتمعة إلى مُخرج واحد يؤدي إلى إنتاج العميل.
العامل الموضوعي في صناعة العميل يتمثل في وجود الاحتلال وأجهزته الأمنية المختلفة (الشاباك والموساد وأمان)، وهذا العامل موجود على الدوام لحاجة دولة الاحتلال المستمرة لتجنيد العملاء لتحقيق أهداف عديدة أهمها: الحصول على المعلومات الأمنية لتوظيفها في حربه ضد الشعب والمقاومة. واختراق تنظيمات المقاومة لجمع المعلومات عنها والعمل على تخريبها من الداخل وربما توجيه بعض أنشطتها وفعالياتها بما يخدم أهداف العدو. وتنفيذ المهمات الخاصة كالاغتيالات وإثارة الفتن وشراء الأراضي.
ومن أهداف الإسقاط الأمني أيضاً التأثير السلبي على الروح المعنوية للشعب والمقاومة لتحطيم إرادة القتال للمقاومة وإرادة الصمود للشعب بطرق نفسية مختلفة. وقد يكون الإسقاط الأمني هدف في حد ذاته لإبعاد وتحييد أكبر عدد ممكن من الشعب الفلسطيني عن الصراع مع العدو.
العامل الذاتي في صناعة العميل يتمثل في وجود الأفراد المُرشحين للعمالة والذين توجد لديهم قابلية نفسية واستعداد عقلي للارتباط الأمني والتعامل مع الاحتلال والتواصل مع ضابط الأمن بقصد تقديم خدمات أمنية للعدو، وهذه القابلية وذلك الاستعداد يتجسّد في منظومة من السمات الشخصية ذات الطبيعة الأخلاقية والنفسية والفكرية المُهيئة للسقوط الأمني، وأهمها: السقوط الأخلاقي المُهيئ للسقوط الأمني والمرتبط بالمخدرات والجنس والمال وغيرها، والمُعزز بخلفية اجتماعية سيئة كالتفكك الأُسري والنشأة المضطربة والتربية الخاطئة وانعدام القدوة الحسنة ومسايرة رفقاء السوء وضعف منظومة الضبط الاجتماعي...
ومن الصفات النفسية الحاجة لتعويض ضعف الشخصية بسبب الشعور بالدونية وتدني مفهوم الذات، وحب الظهور والعظمة والسيطرة والعدوانية المرتبطة بمرض (البارنويا) النفسي، والحقد والعدائية ضد المجتمع بسبب الإحباط المتواصل والفشل المستمر وتحميل المجتمع مسؤولية ذلك الإحباط والفشل مما ينتج الشخصية (السيكوباتية) المعادية للمجتمع والمرتبطة بانعدام الضمير والإحساس بالذنب وتأنيب الذات. وربما من أغرب الأسباب النفسية المرتبطة بظاهرة العمالة هي عملية (التوّحد بالمعتدي) التي تتم بطريقة لا شعورية تشير إلى استلاب الإنسان المقهور الهارب من عالم القهر كي يذوب في عالم القوي المُتسلّط والتماهي معه والإعجاب به والاندماج بمصدر الاحباط والتوّحد به، وهي الظاهرة التي أشار إليها ابن خلدون في مقدمته بأن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب وأعاد فرّويد صياغتها كميكانزم دفاعي لا شعوري عن الذات.
العامل الثالث في صناعة العميل هو الظرف الضاغط الذي يعني وجود اتصال بين الطرفين الممثلين للعامل الموضوعي ممثلاً في المُجندِ (ضابط الأمن الإسرائيلي) والمُجندَ (المُرشّح للعمالة) في ظروف ضاغطة كالتهديد والترغيب والتوريط والاستدراج... كالتهديد بالفضيحة أو الاعتقال أو القتل أو المنع من السفر أو سحب تصريح العمل... والترغيب بالمال أو التسهيلات أو العمل أو المخدرات والجنس... وقد يكون مجرّد اتصال ضابط الأمن الإسرائيلي بالشخص المُرشح للعمالة في حالات معينة ظرف ضاغط.
وهناك حالات لا يتوّفر فيها الظرف الضاغط للارتباط عندما يكون العامل الذاتي للارتباط الأمني قوياً لدرجة يدفع صاحبه إلى الرغبة في الارتباط والسعي فعلياً لذلك وإيجاد طريقة ما للاتصال مع ضابط الأمن الإسرائيلي. وهذا يحدث عند العميل الأيدلوجي المؤمن بالصهيونية كفكرة ومشروع دولة، وهذا النوع من العملاء قد لا يكون موجوداً عندنا بهذه الصورة الواضحة ولكنه موجود بدرجات أقل يُعبّر عنها بالإعجاب بنمط حياة العدو وبالمقابل احتقار نمط حياة مجتمعة ويكون غالباً مصحوباً بالهزيمة النفسية وضعف الانتماء الديني والوطني. وهناك نوع آخر من العملاء الذي لا يحتاج إلى ظروف ضاغطة هو العميل المتطوع المبادر للاتصال بالعدو وعرض خدماته عليه بدافع الحصول على المال أو بعض الامتيازات المادية، أو إشباع حاجة نفسية داخلة مرتبطة بدورها بدوافع نفسية قوية كامنة في النفس الأمارة بالسوء.
بقي أن نذكر أن مسؤولية مكافحة ظاهرة العملاء ليست مسؤولية أجهزة الأمن فقط بل هي مسؤولية المجتمع بأسره بأفراده ومؤسساته الحكومية والمدنية ابتداءً من الأسرة وحتى أعلى المستويات الرسمية مروراً بالمدارس والمساجد ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها.