تاريخ النشر : 2009-08-19
غزة لم يضربها زلزال
بقلم/ حسن عبد الحليم
لسنا أمام لوحة سريالية، بل أمام واقع التبست فيه المواقف والمفاهيم بفعل السياسات. لم يضرب قطاع غزة زلزال ليتم التعامل معها على أنها قضية إنسانية، بل تعرضت لحرب بربرية، وهي واقعة تحت الاحتلال والحصار. وكان ينبغي أن تتوجه الوفود الأوروبية، بعد وقف العدوان، إلى غزة وليس إلى تل أبيب، لبحث وقف تزويد إسرائيل بالسلاح وفرض عقوبات عليها بصفتها قوة احتلال معتدية ارتكبت في غزة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ولكن ما حصل هو العكس تماما. وحملت تلك الدول مسؤولية جرائم الاحتلال لمقاومة الاحتلال وليس للاحتلال ذاته، وسارت أنظمة عربية عدة في هذا النهج، وعلى رأسها النظام المصري الذي يساهم في الحصار على غزة ومنع تدفق السلاح إلى المقاومة ابنة جلدتها.
"ليس مهما كم يسقط من المدنيين الفلسطينيين، ليس مهما حجم الدمار، المهم الحفاظ على حياة جنودنا. لا يهمنا الاحتجاجات الدولية سنتعامل معها بعد أن ننتهي". هذا ما نقله معلق سياسي إسرائيلي عن مصدر أمني مع بدء الحرب العدوانية على قطاع غزة، بعد نحو سنتين من حصار إسرائيلي وعربي.
كان هذا التصريح كافيا لإلقاء الضوء على إستراتيجية الحرب الإسرائيلية ضد غزة التي أطلق عليها"غيورا آيلاند"، الرئيس السابق لشُعبة التخطيط والعمليات في القيادة العامة، قبل شهور، «نموذج الضاحية الجنوبية»، أي التدمير الكلي باستخدام آلة الحرب المتطورة وقصف المنشآت المدنية والبنى التحتية إلى جانب العسكرية. وكانت النتائج: آلاف الشهداء والجرحى وعشرات آلاف المباني المدمرة، وتدمير البنية التحتية والمنشآت المدنية والمباني العامة والخاصة، والمدارس والمساجد وكل شيء.
هذه العقيدة تسمى الأرض المحروقة أمام القوات المتقدمة، تستخدم فيها المدفعية والطيران بشكل مكثف، وتتم فيها عمليات الرصد والاستطلاع بالنيران. ويقول أحد الجنود الذين شاركوا في الحرب لصحيفة"يديعوت أحرونوت"إن ضابط كتيبتة أصدر تعليمات للطائرات بتدمير عشرة مبان في المنطقة التي عملت قواته فيها فقط لأنها تحجب مجال الرؤية عن القوات. ويتضح لاحقا من شهادات الجنود والضباط أن القوات الراجلة لم تشارك تقريبا في القتال، بل قاتلت عنهم المدفعية والطائرات، وكانوا آداة لتوجيهها وقصف المباني والمواقع التي صدرت منها النار أو توقعوا أن تصدر منها.
هذه النيران الكثيفة التي أمطرتها آلة الحرب الإسرائيلية باستخدام المدفعية الثقيلة وطائرات إف16، في منطقة سكنية لا تزيد مساحتها عن 350كم مربع ويعيش فيها مليون ونصف فلسطيني محاصرين منذ أكثر من سنتين، وبدون عمق جغرافي يلجأ إليه السكان للاحتماء من القصف، هي بحد ذاتها جريمة حرب قبل الخوض في التفاصيل. وهي حرب ليس لها مثيل في حقارتها. ويمكن القول إن ما جرى في غزة ليست عمليات عسكرية، أو حرب جبانة فحسب، بل إبادة جماعية بكل المعايير.
بعد وقف العدوان؛ وانسحاب الجنود(الذين لم يقاتلوا) بمعنويات مرتفعة، تحدث السياسيون الإسرائيليون عن تحقيق الأهداف دون أن يذكروها. وجاء الأوربيون من كل صوب لمنح الغطاء لجرائم إسرائيل،. واعتبرت إحدى الصحف الإسرائيلية هذا الحجيج الأوروبي «صورة الانتصار"للحرب، بعد أن تعذر على القوات جلبها. وبعد أيام تكررت على ألسنة المحللين والمعلقين الإسرائيليين جمل مثل"إضاعة الفرصة"و"خيبة أمل"في وصفهم لنتائج الحرب. ثم ظهر شبح الدعاوى القضائية ضد القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية بارتكاب جرائم حرب في غزة وأخذت حيزا من الاهتمام الإعلامي والجماهيري والرسمي.
وفي الجانب الآخر، خرجت غزة من تحت الأنقاض تلملم أشلاءها، والمصاب أليم، إلا أن الصمود كبير. ولكن هذا العدوان الإسرائيلي لم يكن كافيا للملمة الصف العربي ضد هذا العدوان. بل وذهب البعض إلى تحميل المقاومة الفلسطينية المسؤولية عن هذه الحرب بشكل مباشر وغير مباشر.
لم يسقط العدوان الإسرائيلي على غزة الأقنعة عن بعض الأنظمة العربية- بل كانت سافرة منذ أمد بعيد أشد السفور. ويتضح أنه حينما يكون الأمن القومي لوطن عربي ما هو أمن النظام فلا عجب أن تكون السياسات مشتقة من هذا التعريف. وتتحول العلاقات مع الآخرين مرهونة بمدى تأثيرهم المباشر او غير المباشر على وجود وبقاء النظام، وليس على الأمن القومي للبلد أو رفعته وتطوره، أو الأمن القومي العربي الغائب.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تصبح نظرة تلك الأنظمة للقوى الإقليمية والعالمية مشتقة أيضا من هذه القاعدة وتتحول إلى معيار التعامل مع الآخرين. فيشار إلى إيران وحلفائها على أنهم المشكلة، وإلى حركات مقاومة الاحتلال على أنها تدفع أجندات أقليمية. وفي هذه الحالة لا تعتبر سياسات إسرائيل والولايات المتحدة أجندات أقليمية أو عالمية. ووفق هذا المنطق إيران هي المشكلة- وكأنها هي التي تحتل فلسطين وتقمع وترتكب المجازر وتوسع المستوطنات ولا تبقي على بقعة خضراء، وكأنها هي من شنت الحرب على غزة. نعم المشكلة هي إيران برأي وزير الخارجية المصري وليست إسرائيل.
ومع وقف الحرب دون انتهائها، تبقى الصورة العربية على ما هي، بل تعزز الفرز، بين خيارين استراتيجيين: الاستجداء والمفاوضات حتى الثمالة من ناحية، والمقاومة والممانعة من ناحية أخرى، والبعد بينهما شاسع، أكثر من أن تجسر فجوته مبادرة مصالحة عشائرية أو تدوير زواياه بخطاب يلهب المشاعر كخطاب العاهل السعودي في قمة الكويت الاقتصادية.
وتبقى مصر هي مفتاح الحل لأنها الدولة الوحيدة التي لها حدود مع غزة، فبعد أن خاب أمل مسؤوليها وبعض مسؤولي السلطة الفلسطينية في أن تتمكن الحرب من القضاء على حماس في عملية عسكرية نظيفة، مع أقل عدد من المصابين المدنيين، ها هما يواصلان مسيرتهما في حصار المقاومة «العبثية والتي تجلب المصائب على شعبها» وفقا لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.
وفي ظل هذا الوضع العربي الرديء، يجري التعامل مع غزة كأنها تعرضت لنكبة طبيعية، زلزال أو عاصفة هوجاء وليس لعدوان همجي، ويتم التعامل معها باعتبارها قضية إنسانية، وليست مشروع تحرير. وفي ذلك تغييب لدور المجرم الحقيقي، المسؤول عن الحرب العدوانية البشعة.
لا يتوقع انفراجة قريبة أو صحوة متأخرة من قبل بعض الدول أو الجهات العربية، فنحن لسنا في"فيلم عربي"، بل في واقع هو الأخطر على مستقبل القضية الفلسطينية والقضايا العربية. ولكن هناك شيء واحد لا ينتظر ولا يمكنه أن ينتظر- إعمار قطاع غزة وإيواء من شردتهم آلة الحرب الإسرائيلية بعد تدمير منازلهم، ومنح قطاع غزة سبل الحياة العادية- قبل منحهم سبل الصمود المختلف عليه عربيا.