تاريخ النشر : 2009-08-19
غزة: الهزيمة والانتصار
بقلم/ توفيق محمد
أما وقد انتهت الحرب العدوانية على قطاع غزة فان حديث الشارع والمحللين السياسيين اليوم منصب حول من الذي انتصر في هذه الحرب هل هي"إسرائيل"أم قوى المقاومة الفلسطينية , وحول ماذا بعد هذه الحرب المجنونة والمجازر البشعة التي ارتكبتها دولة الاحتلال"الإسرائيلي"، وللحقيقة، فان الحديث عن مصطلحات النصر والهزيمة، وحصرها بالخسائر البشرية والمادية في حالة حركات التحرر الوطني خطأ جسيم وإلا لكانت الجزائر صاحبة ثورة المليون شهيد هي المنهزمة في مسيرة سعيها للإنعتاق من الاحتلال الفرنسي المقيت لبلادها، ولكانت الفيتنام أيضا التي دمرت أمريكا بلادها، وقتلت شعبها وأشبعت أرضها بالإشعاعات النووية, أيضا هي الخاسرة, ولكان استقلال الجزائر واستقلال الفيتنام وكل الدول التي انتصرت على الاحتلال، أيا كان، وطردته من بلادها، لكانت كلها في الواقع منهزمة ومدحورة, ولكن الحقيقة هي أن النصر والهزيمة في هذه الحالة لا يقاس بمدى الخسائر البشرية والمادية التي أحدثها المحتل الغاشم بالكيان الذي يحتل أرضه لان هذه طبيعة الحرب وطبيعة ما يمكن أن يحدث مع حركات المقاومة، خاصة وان دول الاحتلال تملك من السطوة والعتاد والعدد ما لا تملكه قوى الممانعة.
إزاء ذلك فانه يمكن إجمال بعض النقاط المتعلقة بالأمر في التالي:
ونبدأها من الأطفال الأبطال الذين علموا الأمة معنى الصبر والفهم الواعي لقضيتهم, ووقفوا أمام كاميرات الصحافة يروون روايتهم، ويشرحون مأساتهم بلسان طلق ورباطة جأش تقطعها دموع حنين للعائلة (والدان وإخوة) لم يترك الاحتلال لهم منهم سوى بعض ذكريات يمكن التقاطها من تحت الركام أن تمكنوا من فعل ذلك قبل أن تبدأ أسنان الجرافات تسوية الدمار لإعادة البناء, هؤلاء الأطفال في الواقع هم قيادة مستقبلية في بلد لم يبخل على وطنه بتوفير القيادات كلما استدعت الحاجة, وللحقيقة من باب تحليل الواقع، فقطاع غزة فقد خلال السنوات الخمس الأخيرة الكثير من القيادات ومع ذلك فان جيلاً جديداً نشأ من بين الدمار وقاد الصفوف وتقدم, وان الأطفال الذين أتت بهم فضائية الجزيرة يروون الرواية على أنقاض بيوت كانت بالأمس تؤويهم, بعد أن دمرتها قذائف الاحتلال، وقتلت أهلها, هؤلاء الأطفال لا شك بإمكانهم أن يكونوا قيادات المستقبل، وأي قيادة اختارت"إسرائيل"أن تحاورها, إنها قيادة رأت قذائف الاحتلال وهي تخترق أجساد أهلها كلهم.
إن الحرب المسعورة قد جبت أرواح أكثر من 1300 شهيد وقرابة 5500 جريح جلهم من الأطفال والنساء والمدنيين، ولكن نيران بارودها ما طاولت قيادات المقاومة على اختلاف مسمياتها, وتلك بقيت تقود الشعب كما كانت قبل الحرب.
المقاومة نفسها بقيت على حالها حسب كل المحللين فحسب تصريحات الناطقين بلسانها أن هذه الحرب المسعورة لم تمنع الصواريخ الفلسطينية من الوصول إلى أسدود وعسقلان وبئر السبع حتى اللحظات الأخيرة , وهو ما يشير إلى أن هذه الحرب لم تحقق"إسرائيليا"سوى محاولة لإعادة ترميم الصورة التي شوهتها حرب تموز للجيش"الإسرائيلي"على حساب أشلاء أجساد أطفال ونساء غزة.
الفلسطينيون لأول مرة في تاريخهم يخوضون كحركة مقاومة حربا عنيفة وشرسة على الأرض الفلسطينية ويستطيعون الثبات والصمود مدة 22 يوما، بل ويتمكنون من إعاقة جيش الاحتلال من الصول إلى الأماكن التي خطط الوصول إليها بل منعه من ذلك في أحيان أخرى، وهو ما لم يكن سابقا البتة، فقد كان جيش الاحتلال في المرات السابقة يدخل أي مكان يريد بسرعة البرق وكأنها نزهة فيختطف من يشاء ويقتل من يشاء ثم يغادر دون أن يصاب بأذى. في المحصلة في هذه المعركة غير المتوازنة خسر الجيش النظامي الرابع بقوته كما يوصف لأنه لم يتمكن من نزع نصر من شعب صمد على أرضه وقاوم المحتل بإرادته وقوة حقه، وبقي متربعا على عرش عزته رغم أن الجراح تثخن جسمه، وفي هذه المعركة انهزم النظام العربي الرسمي بشكل فاضح لم يسبق له مثيل، فقد راهن على أن تتمكن دولة الاحتلال"الإسرائيلي"من إلحاق الهزيمة بالإرادة الفلسطينية الجبارة لكنه تفاجأ بان إرادة الحياة والكرامة والعزة لدى هذه الشعب أقوى من أن تهزمها قنابل الاحتلال الفسفورية وطائراته وبوارجه ودباباته.