تاريخ النشر : 2012-08-24
الثّورة السّوريّة والإحياء الإسلاميّ
د. عبد الكريم بكار
أعتقد أنّ كلّ الثّورات العربيّة المجيدة ساهمت بنصيب وافر في إحياء الكثير من القيم الكبرى، وفتحت الكثير من الآفاق أمام الأجيال الجديدة، ولكنّ الثّورة السّوريّة فازت بالقسط الأكبر من ذلك بسبب طولها، وتعاطف الشّعوب الإسلاميّة معها، وبسبب ما ارتكبه نظام السّفاح في دمشق من فظائع، وما قدّمه الشّباب السّوريّ من تضحيات جِسام، ولهذا فإنّي هنا سأركّز الحديث على ما حدث من إحياء إسلاميّ بسببها مع التّقدير لكلّ إنجازات الرّبيع العربيّ:
1- ترسّخ في وعي كلّ المهتمين بالإصلاح في سورية عدم جدوى استخدام القوّة في التّخلص من النّظام المتعسّف والجائر، وقد كان هذا بسبب أحداث الثّمانينيّات من القرن الماضي، وبسبب الأخطاء الجسيمة التي وقعت فيها بعض التّنظيمات المسلّحة في بلاد شتّى من عالمنا الإسلاميّ، وقد ولّد اليأس من نجاعة الصّراع المسسلّح توجّهًا قويًّا نحو النّشاط الدّعويّ والخيريّ والتّربويّ، وقد فتح النّظام نافذة صغيرة أمام تلك الأنشطة، نافذة تُبقي الرّاغبين في الإصلاح في حيّز الخوف من بطش النّظام ومنعه لأنشطتهم مع التّلميح بوجود مساحة للقيام بشيء ما، مثل تحفيظ القرآن الكريم، وإطعام الجياع، وفتح بعض المعاهد الشّرعيّة، أمّا الإصلاح السّياسيّ ومحاربة الفساد ومساءلة طائفة النّظام عن استئثارها بالسّلطة وعن نهبها للعباد والبلاد... فهذه الأمور محرَّمة، ومجرّد الحديث عنها يُعدّ جريمة لا تُغتفر..
2- النّظام في سورية اتّبع سياسة ماكرة جعلت الانشغال المستمرّ هو الطّابع العامّ لمعظم السّوريّين؛ إذ إنّك تجد فيهم فئة قليلة أثرت ثراء فاحشًا؛ فهي مشغولة بتثمير الثّروة والاستمتاع بها، وإلى جانب هذه الفئة القليلة هناك شريحة واسعة جدًا مهمومة بتوفير أسباب البقاء لأسرها، وقد ساهم الثّراء الفاحش والفقر المدقع في نشر التحلّل الخلقيّ والفساد الاجتماعيّ، ممّا جعل الحياة العامّة بائسة وكئيبة..
3- حين رفع التّونسيّون لواء ما سُمّي فيما بعد (الربيع العربي) اعتقد كثير من السّوريّين بأنّ قيام ثورة في بلادهم شبه مستحيل؛ لِما يعرفونه عن النّظام الذي يحكمهم من إجرام وتشبّث بالسّلطة، ولكن الله ـ تعالى ـ نفخ في أرواحهم روحًا من روحه، فانخرطوا في منظومة ثورات الرّبيع العربيّ، وبدأ في سورية فصل جديد.
4- لو تساءلنا عن مساهمة الثّورة السّوريّة في الإحياء الإسلامي لأمكننا رؤية الأمور التالية:
أ ـ صار لدى معظم السّوريّين والعرب عامّة شعور قويّ بوجود إمكانيّة حقيقيّة للإصلاح العام؛ فقد اكتشف السّوريّون أنّهم أقوى من النّظام الذي يصارعونه، واكتشفوا أنّه على ما يقوم به من بطش يحمل في جوفه بذور زواله، وهذا الاكتشاف مهمّ جدًا؛ لأن التّاريخ يعلّمنا أنّ اليأس من إمكانيّة الإصلاح بالإضافة إلى ضبابيّة طرقه ومسالكه كان دائمًا مصدرًا للتّقاعس والتّطرّف والحيرة لدى جميع المصلحين في كلّ زمان ومكان.
ب ـ أحدثت الثّورة السّوريّة نقلة نوعيّة في وعي الناس وفي حسّهم الوطنيّ، وهذه النُّقلة حدثت في وعي طلاب العلم الشّرعيّ والمثقّفين خاصّة، ووعي الجماهير العريضة عامّة، وقد لفت نظري على هذا الصّعيد البيان الصّادر عن علماء مدينة (حمص) بعد أيّام من انطلاق الثّورة؛ إذ طالب ذلك البيان أن تكون (المواطنة) هي أساس الحقوق والواجبات في البلد، ونحن نعرف أنّ هناك عددًا من الإشكالات الفقهيّة في هذا.
ج ـ تفتّح وعي النّاس في الشّام على مسألة مهمّة جدًّا، وهي أنّ الاستبداد القاسي الذي عانوا منه نصف قرن بالتّمام والكمال كان بسبب غياب دولة المؤسّسات وسيادة القانون واستقلال القضاء، ممّا مكَّن حفنة من الضّباط من اختطاف البلد وسوْم أهله سوء العذاب، ولذلك فإنّ هناك إصرارًا كبيرًا على إقامة نظام حكم يأتي عن طريق انتخابات حرّة ونزيهة، مع الفصل التّامّ بين السّلطات، بالإضافة إلى منح قسط كبيرة من الحريّة لوسائل الإعلام كي تقوم بدورها في الرّقابة على الأجهزة الحكوميّة.. إنّ كثيرًا من النّاس مقتنعون بهذه الأمور على نحو تامّ، لكن الذي أحدثته الثّورة السّوريّة هو جعْل هذه المطالب في بؤرة الاهتمام وطليعة الأولويّات، وفي هذا استجابة كبرى لما أمر الله به عباده من إقامة العدل ومحاربة الفساد في الأرض، وما قرّرته الشّريعة الغرّاء على صعيد الحقوق والحريّات.
د ـ في سورية اليوم عودة رشيدة وواسعة النّطاق إلى الله ـ تعالى ـ وتجلّيات هذه العودة أكثر من أن نتحدّث عنها في مقال، لكن لعلّ من أهمّها طلب الشّهادة واسترخاص كلّ نفيس في سبيل نجاح الثّورة والصّبر على البلاء، بالإضافة إلى تحابب النّاس وتضامنهم وتضحيتهم بعضهم من أجل بعض، في صور يندر تكرارها في التّاريخ.
إنّ الثّورة السّوريّة -على الرّغم من جسامة التّضحيات والخسائر- قد أعادت رأس المال بما أحيا الله بها من النّفوس والعقول والأخلاق، و بما فتحه بها من آفاق فسيحة، ونحن ننتظر من الكريم الرحمن الرّبح الوفير في نصر عزيز وفتح مبين.