تاريخ النشر : 2010-03-24
التدمير والاختراق والتدجين واحتلال السماء والتاريخ
الحرب التي تدور مؤخرا هي حرب على الكلمات أكثر من كونها حربا على الأرض، على الأرض تفرض "إسرائيل" حاليا ما تريد، لكن هناك ما لا يقل أهمية عما يفرض على الأرض.
في الحرب على المكان هناك حربان، حرب العسكر وحرب المصطلحات والأسماء، في هذه المعركة تشكل الأسماء والمصطلحات مسالة جوهرية لا تقل أهمية عن حرب العسكر.
في العادة تحتل حرب العسكر الواجهة، المسالة طبيعية للغاية، مفهومة للغاية، الدماء أكثر تأثيرا على الناس من أي شيء آخر، الدماء والموت دائما قادرة على إخفاء كل شيء، من يشاهد الموت والدم لا يشاهد أي شيء آخر.
على مر التاريخ كان الدم والموت يستقطب اهتمام الناس، لأنه الشيء الأهم لمعنى الحياة، حين يموت الناس لا يصبح شيء ذا أهمية، هذا صحيح اليوم وصحيح في الأمس، وسيبقى كذلك، لان الموت والدماء قادرة على الاستحواذ على أي مشهد من أي نوع.
لكن، ولكن هذه كبيرة جدا، في الجبهة الخلفية تحدث حرب لا تقل ضراوة عن تلك التي ينشغل بها الناس، الحرب على المصطلحات، الحرب على الأسماء والحرب على "معنى الأشياء"، هذه في العادة لا يلتفت إليها احد، هذه في العادة تصبح مفهومة ضمنا على قاعدة "صمت أنهم يطلقون الرصاص".
في المساحة الواقعة بين الرصاص والكلام، بين الخوف والتحرر منه، بين الحصار وأمل الانفكاك منه، في هذه المساحة يدخل "العرابون"، يدخل مؤولو النصوص، الذين يبررون في العادة ما يحدث وما لا يحدث، ويبررون السفاهة بقلة الحياء.
دائما هناك من ينتظر، ينتظر جيدا، يختار الكلمات والجمل، بكلام حق يراد به باطل، دائما هناك من يترقب "وعي الناس" لينقض عليه في أول فرصة تسنح له.
من عادة هؤلاء أن يختبئون حين تسيل الدماء، أي يقولون الأشياء بحذر شديد، او يصمتون، ثم يظهرون بعد الإجهاز على الضحية، وبعد أن تكون قد حوصرت من كل جهة، هؤلاء يظهرون في العادة بالوقت المناسب، باللحظة الحاسمة، لكنهم يرافقون هجومهم بمجموعة من المصطلحات التي لا تخلو من الخبث، لا تخلو من التآمر، تهدف إلى إعادة "صياغة الوعي" مع الأشياء، مع التاريخ ومع المكان، إعادة تسمية الأشياء من جديد، وتكون بذلك قد استكملت مهمتهم القذرة تحت وطأة الحصار، مستغلة بشكل سافر حالة الناس ومشاعرهم، هؤلاء يظهرون على شاكلة "منقذ"، مخلص، ينفذون مهمات قذرة للغاية، يستغلون عواطف الناس ومشاعرهم، فينقضون عليهم.
النماذج التي بحوزتنا كثيرة، ليس من الممكن الوقوف عند كلها، لكن من المهم الوقوف على آليتها، ففيها من الخبث ما يكفي لكل البشرية، لتسعهم.
آليات
تعتمد هذه على ثلاث خطوات: التحطيم ثم الاختراق، فيما تكمن الخطوة الثالثة وهي الأهم في التغيير.
يشكل الجانب العسكري أهم أدوات التحطيم، حتى تعمل هذه القوى لا بد من مقدمة، لا بد من يهيئ لها المناخ والأرضية، في هذه الحالة تشكل الدبابات والصواريخ أدوات مهمة، يتم من خلالها إخضاع الأرض والناس، والنظام (إذا وجد).
يعتمد المحتل أو المعتدي أو المستعمر في هذه المرحلة إلحاق اكبر أذى وضرر في الناس، ويعتمد في غالبية الأحيان أسلوب "الصدمة" بهدف إحداث الرعب الذي يشكل مدخلا مهما للاقتحام وبعد ذلك الاختراق، تتم عملية التدمير بشكل منهجي للغاية، حيث ترافقها حرب نفسية قذرة تستهدف إرباك الناس وتخويفهم ودب الرعب بهم، يصل الحد بها إلى درجة الاعتقاد انه: إما الموت وإما الخنوع.
هذه الثنائية بين حالتين لا ثالث لهما تجعل من مهمة الاقتحام سهلة، وتتم هذه بواسطة "وكلاء تدجين"، ذئاب في ثياب "خراف".
يلبس هؤلاء على الغالب "ثوبا إنسانية" مليئا بالشفقة والرحمة، "تتفطر" قلوب الناس، وتتمثل مهمة هؤلاء في العادة في التقليل من حجم الجريمة التي ألحقها المعتدي والمحتل والمستعمر بالناس، هذا أولا، ويعتمد هؤلاء تقارير "عن جرائم" على الغالب لا تشكل شيئا من حجم الجريمة الكبير، وترفع هذه في العادة لهيئات دولية، تكون هي الأخرى شريكة في التآمر.
في الوقت الذي ينقض المستعمر والمحتل وجيشه على الناس ويلحق أقصى ما يمكن بحياتهم من درجات الدمار، يأتي هؤلاء في اشد لحظات الناس حلكة ليظهروا ب"مظهر المخلص"، ما يجعل تعلق الناس بهم في كثير من الأحيان أمرا عاديا للغاية، بعد أن تغلق وتسد كل السبل امامهم، وبعد أن يكون بمقدور هؤلاء فقط تحقيق بعض المسائل الشخصية لبعض الناس، ما يجعل من درجة التعلق بهم تزداد.
ليست الجمعيات "الإنسانية" التي تنقض على دماء الضحايا في أي حرب من أي نوع إلا نموذجا ومثالا على ما نقول.
وظيفة غالبية هذه المؤسسات والجمعيات أولا التخفيف من حدة الجريمة التي ارتكبت، ثم وضعها في سياق "الشكاوى الدولية"، ثم تنفيس غضب الناس، وتمرير مشاريع أخرى، مثل التهجير، أو التنصير، او الاذلال، والاهم من كل هذا تغيير القناعات.
هذه المسالة تحتاج أيضا إلى خلق ازدواجية مفتعلة، مفبركة، يمكن من خلالها تمرير هذه المخطط بإتقان، لا يمكن تمرير هذا المخطط، ولا يمكن اقتحام وعي الناس، بدون خلق "منطق الاختلاف"، المتطرف مقابل المعتدل، اليسار مقابل اليمين، الشرعي مقابل غير الشرعي، إلى غير هذه الثنائيات، التي يرهقنا بها الإعلام، ليخلق صورة مفبركة وكاذبة، يتم من خلالها اقتحام وعي الناس، وتغيير قناعاتهم، وإحداث التغيير المطلوب، بهدف إعادة تسمية الأشياء من جديد، الاحتلال والاستعمار يصبح "تواجدا"، والمقاومة تصبح "إرهابا"، وفي العادة يتعرض "الاستعمار والاحتلال" لهجوم، مع انه من المفروض أن يكون الأمر كذلك، أي مقاومة الاحتلال، لأنه الاستعمار والاحتلال الذي تمنحه كل القوانين ويضمنها القوانين الدولية.
مهمة هذه المؤسسات تطبيع الناس المحتلين مع المحتل، مع المستعمر، فهي تنشط ليس على أساس معارضة ومقاومة الاحتلال أو الاستعمار، وهي جزء من مهماتها القذرة لخلق حالة تطبيع مع الحالة.
لن نذهب بعيدا ، في بلادنا هناك ما يمكن التعلم منه، بل يمكن أن يكون مدرسة، وفشرت كل المدارس.
ما يحدث في بلادنا مؤخرا وصل مدى غير مسبوق في الدجل، وصل مدى من "تزييف الوعي" إلى درجة لم يعد الإمكان عند البعض حتى حفظ "خط الرجعة".
ما يحدث مؤخرا في القدس هو أمر في غاية الخطورة، وهو استكمال للدور التاريخي الذي لعبه "اليسار الإسرائيلي" وأعوانه، في المكان الذي من الممكن أن تصبح الرواية على "غير المطلوب" يظهر اليسار الإسرائيلي بواسطة "عرابي التدجين"، ليخلق وهما أن هناك ما هو "آخر"، يظهر في القدس وفي الشيخ جراح، ليؤكد على "التمييز" ضد سكان الشيخ جراح، عن أي تمييز يتحدث اليسار الإسرائيلي، هناك احتلال في القدس وأين يظهر الاحتلال لا يصبح تمييزا، يصبح إبادة.
المسالة على أية حال ليست جديدة، تاريخيا لم يكن بالإمكان الذهاب الى التسوية، فلسطينيا وعربيا بدون الحديث عن هذا التمايز بين"اليسار" و"اليمين" وإلا لا معنى ولا مبرر للمفاوضات، لا يمكن تبرير المفاوضات إلا على أساس هذا التمايز، "الاختلاف" بين اليمين واليسار، الحديث عن "قوى سلام" إسرائيلية، كانت تعمل وما زالت في خدمة الأهداف الإسرائيلية، كانت تنشط ضمن إستراتيجية وتنسيق، كان "تشدد" اليمين دائما يبرر ارتماء العرب والفلسطينيين في أحضان "اليسار الإسرائيلي"، الذي كانت مهمته وما زالت وستبقى تدجين وترويض كل إنسان عربي من المحيط إلى الخليج، هذه العقلية هي التي أوصلت صحيفة الحياة اللندنية اعتبار الأديب الإسرائيلي عاموس عوز من "أنصار السلام"، من قرأ ويقرا كتابات عاموس عوز سيكتشف أن افيغدور ليبرمان "أنساني للغاية" بجانبه.
الآن تدور حرب على الأسماء والمصطلحات، حين يقال أن هناك "تمييزا" ضد سكان الشيخ جراح، فان المقصود انه لا احتلال هناك، هناك "مواطنون"، لان التمييز يمارس ضد المواطنين (إذا افترضنا أن الهوية الزرقاء تمنح مواطنة)، عندما يكون الاحتلال والاستعمار لا يكون تمييزا، تكون إبادة، التمييز الذي يتحدث عنه أنصار "اليسار الإسرائيلي" هو الذي يقلل من حجم الجريمة ويحول القدس إلى "مدينة موحدة" في نظرهم، هذا الكلام يقال بخبث ويروج له كثيرون، هكذا يعاد ترميم الأسماء والمصطلحات والأمكنة.
"اليسار الإسرائيلي" مرة أخرى
لا مشكلة لدينا مع موقف اليسار الإسرائيلي مما يحدث في القدس وخارجها، في الثوابت لا فرق بين ما هو مفترض على انه "يسار إسرائيلي" وبين "اليمين".
تاريخيا كان "اليسار الإسرائيلي" وما زال الممثل الأهم للنخبة في إسرائيل، التي ما زالت تحكم البلاد، وتسيطر على كل مؤسساته، توجه السياسات وتقرر المصالح والمشاريع الإستراتيجية.
على مدى سنوات طويلة كان هناك من حاول ان يبيعنا أكاذيب رخيصة حول "أنصار التعايش والسلام" من اليسار فاكتشفنا بفطرة الفلاحين المشردين عن أرضهم، أن هؤلاء تحديدا هم قادة العمل العبري والاستيطان الزراعي الذين أقاموا الكيبوتسات وسيطروا على أرضنا المصادرة، ليعلمونا بعد ذلك كيف من الممكن أن تكون "عربيا جيدا" حتى تنال إعجاب سكان "رمات افيف جيمل" وشارع شينكين والطلاب الثانويين اليهود الذين يزورون غبعات حبيبة وأماكن أخرى.
كانت معادلة التعايش وما زالت قائمة على أساس أن العرب ليسوا "مخيفين" كما يعتقد اليهود، أي أنهم ورغم كل شيء بدون"ذنب"، وكان على العرب من الناحية الأخرى إقناع اليهود أنهم "ليسوا كما يعتقدون عنهم"، أي ليسوا "مع ذنب".
وظل اليسار الصهيوني الذي قادته حركة العمال وحزب مبام على رأسها يبتز وعينا بحلقات التعايش التي كانت تتخللها وجبات دسمة من الحمص والتبولة والباباغنوج، وانفعل هؤلاء من رائحة القهوة والهيل، وانتهت هذه اللقاءات بالمعانقات والبكاء الشديد على حسن الضيافة، فصرنا بالنسبة لهم ليس أكثر من صحن حمص يمسحوه، من الصحن وعن الوجود.
ظل عرابو "الوعي المدجن" يقصون علينا روايات كاذبة، ويقتحمون وعي شبابنا بتصنع ملفت للنظر، فيما كانت الدوريات الخضراء وحماية الطبيعة بالشراكة مع "امن الكيبوتسات" تلاحقنا على تلقيط قليل من الزعتر والجعدة والميرمية من أرضنا.
ما زالت اللعبة ذاتها تكرر إلى الآن بخسة تفوق تلك التي كانت في الماضي، وجاء الفرج لدى البعض قبل أيام في مظاهرة في الشيخ جراح، وابدى البعض فرحهم الشديد لعودة يوسي بيلين ويوسي سريد إلى "ساحات النضال"، من الشيخ جراح يمكن مشاهدة قبة الصخرة بوضوح، من هناك كان بالإمكان مشاهدة الدخان المتصاعد نتيجة إلقاء القنابل الصوتية وقنابل الغاز المسيل للدموع، حتى انه كان بالإمكان شم رائحة هذه الغازات، فلماذا لم نشاهد "فلول اليسار" الإسرائيلي هناك، لماذا لم نشاهد أنصارهم من العرب هناك؟
هذا سؤال نتركه لأغنية "أنا وأنت ماحدش تالتنا، أنا وأنت أنا وأنت وبس".