شابٌ فلسطيني واحدٌ صادقُ اللهجة، واثقُ الخطوة، حادُ النظرة، قويُ الإرادة، صامدٌ على أرضه، متمسكٌ بثوابته، حريصٌ على مقدساته، غيورٌ على شعبه، ومصممٌ على منهجه، أعزلٌ إلا من سكينٍ، ومجردٌ إلا من صدق إرادته وعمق إيمانه بحقه، ينجح وحيداً في إرباك العدو الإسرائيلي وإشغال أجهزته الأمنية وقواه العسكرية، وطواقم البلدية والخدمة المدينة، وعناصر الإسعاف والدفاع المدني، ويجبر السلطات الإسرائيلية على الطلب من مواطنيهم عدم الخروج من المنازل أو التجول في الشوارع والطرقات، وعدم فتح أبواب بيوتهم لأي طارقٍ إلا بعد التأكد من شخصيته وهويته، ثم أصدرت الجهات المختصة أوامرها بتعطيل المدارس والجامعات، ومنع التلاميذ والطلاب من الخروج إلى مدارسهم وجامعاتهم، مخافة أن يتمكن المقاوم الفلسطيني الشاب الحر الطليق من الاستفراد بأحدهم وطعنه.
حالة استنفارٍ كبيرةٍ وتوترٍ شديدٍ سادت مدينة كريات جات الإسرائيلية، التي تحولت خلال فترةٍ قصيرةٍ إلى ثكنةٍ عسكرية، تغص بالجنود والضباط وعناصر الشرطة وسيارات الإسعاف والدفاع المدني، الذين جاؤوا على أهبة الاستعداد وبكامل الجاهزية لمواجهة أي طارئ، وكأنهم يواجهون جيشاً معادياً، أو مجموعةً عسكريةً كبيرة، لا مجرد شابٍ ثائرٍ، وفلسطينيٍ غاضبٍ، خرج لينتقم لشعبه، ويثأر لأهله، لكنه الجبن الإسرائيلي والخوف الذي جبلوا عليه ونشأوا فيه، ذلك أنهم يعرفون أنهم ظالمين ومعتدين، وقتلة ومجرمين، ويعلمون أن حالهم هذا القائم على الظلم والاغتصاب لن يدوم ولن يستمر مهما طال الزمن وتأخر الحسم، ومهما بلغت قوتهم وعلا شأنهم وتعاظم سلاحهم وازداد تفوقاً وفتكاً.
إنه محمد شاكر الطردة، الفلسطيني ابن بلدة تفوح قضاء الخليل، الذي استطاع وحده أن يدخل العدو الإسرائيلي في دوامة قلقٍ واضطراب، وحيرةٍ وخوف، بعد أن نجح بمفرده في طعن عددٍ من المستوطنين، ثم لاذ بالفرار ونجح في التواري عن الأنظار والاختباء بعيداً عن العيون، الأمر الذي أخاف الإسرائيليين أكثر، وجعلهم يتربصون خيفةً وقلقاً، ويلتفتون يمنةً ويسرةً، مخافة أن يطلع عليهم بسكينه، ويكمل ما بدأه فيهم طعناً ومحاولةً للقتل، وهم يعلمون أنه سيكون أكثر جرأة وأكثر اندفاعاً، وأشد رغبةً في الطعن ومحاولة إصابة أكبر عددٍ ممكنٍ منهم، لعلمه أنه سيقتل، وأنهم لن يتركوه وشأنه، ولم يكتفوا باعتقاله، بل سيجهزون عليه كحال كل الشهداء الذين سبقوه ونفذوا عملياتٍ تشبه ما قام به.
لهذا كان الإسرائيليون يشعرون أنهم في مواجهةِ أسدٍ هصورٍ، ونسرٍ جارحٍ، وصقرٍ يرقبهم من مكمنه، وأنه سينال يقيناً من كل من يقابله ويجده في طريقه، ولن تخيفه قوة، ولن تمنعه إرادة، إذ كيف سيصدون رجلاً يقبل على الشهادة بنفسه، وينوي المواجهة وهو يعلم أنه سيقتل، الأمر الذي يجعله يفكر جاداً ألا يقتل بدمٍ باردٍ، وألا يسلم نفسه لعدوه رخيصاً بلا ثمن، وسهلاً بلا غرمٍ أو مقاومة، قبل أن يثخن فيهم غاية ما يستطيع.
خلت الشوارع فعلاً، وران على المدينة صمتٌ شديدٌ، وسكن أرجاءها الخوف، وبدأ السكان في الاتصال ببعضهم، يطمئنون على أنفسهم ومن غاب من أبنائهم، ويطلبون ممن هو خارج المدينة ألا يعود إليها، بينما كان محمد في المدينة، لم يغادرها بعد، ولم يتمكن من الابتعاد كثيراً عن مكان الحادثة، بل كان يتربص ويترقب، وفي نيته مواصلة ما بدأ، واستكمال ما خرج من أجله، ولكن حالة الاستنفار كانت كبيرةً جداً، وعدد الجنود وعناصر الأمن والشرطة الذين يجوبون المناطق، ويبحثون ويفتشون عن منفذ عملية الطعن كان كبيراً، وكانوا في حالة جهوزيةٍ عالية، يحملون بنادقهم ومسدساتهم، وأيديهم على الزناد، الكل يتطلع ويتفحص المكان، وأخيراً تمكنوا من الوصول إليه بينما كان في حديقة أحد المنازل، واقفاً يحمل سكينه متأهباً، ينوي المهاجمة ولا يتطلع إلى الفرار.
شعر العدو الإسرائيلي أنه قد حقق نصراً، وأفشل مخططاً، وأنه تمكن من إحباط عمليةٍ عسكريةٍ نوعيةٍ كان سيقوم بها الفريق محمد شاكر الطردة، وطنوا أنهم باعتقالهم له سينامون ليلهم الطويل، وستذهب عنهم كوابيسهم وأحلام ليلهم المزعجة، ورعبهم الدائم في ساعات النهار، وأن أحداً لن يأتي من بعده، ولن يتم ما بدأ غيره، ولن يستكمل المسيرة سواه، وما علموا أن الراية لا تسقط، والسكين كما البندقية لا تقع من يد فلسطينيٍ أبدا، بل يسلم الراية مقاومٌ إلى مقاومٍ، ويحمل السكين شابٌ إثر شابٍ أو فتاة، وتمضي المسيرة، وتتواصل المقاومة، ويعلن الفلسطينيون أن أرضهم أعز عندهم من المهج والأرواح، وأن قدسهم أمانةٌ عندهم في كتاب الله، لا يفرطون فيها ولا يتنازلون عنها، ولا يتأخرون في حمايتها والدفاع عنها.
كريات جات التي استهدفها الطردة بسكينة، مدينةٌ فلسطينية عريقةٌ في المقاومة، وتاريخها ساطعٌ في الصمود والثبات، إنها بلدة عراق المنشية، أو مدينة الفالوجة الشهيرة، التي بات اسمها علمٌ، يطلق على مدنٍ كثيرةٍ، وشوارع ومدارس وميادين عربية عديدة، ذلك أنها المدينة الفلسطينية التي كانت أكثر من صمدت في حرب عام 1948، ولم تسقط في يد الإسرائيليين، الذين لم يتمكنوا من دخولها عنوةً بقوة السلاح وإرهاب العصابات المسلحة، بل بقي فيها المقاتلون العرب والفلسطينيون، صامدون يقاومون، يقاتلون بشراسةٍ ويرفضون الخضوع والاستسلام، حتى غدت هذه المدينة اسماً لكل مقاومةٍ، ورديفةً لكل صمودٍ وثباتٍ في وجه الاحتلال، الذي اكتوى بها قديماً، وتألم فيها وبكى اليوم جديداً.
شكراً لك محمد الطردة، واعلم أن سجنك لن يطول، وقيدك لن يدوم، وحريتك وغيرك لا محالة ستكون، وأنك في أغلالك وخلف الأسلاك والقضبان في السجون والمعتقلات ستبقى تخيفهم، فقد أعدت وصل ما انقطع، وأحييت فينا ذاكرةً عزيزةً وأياماً مجيدة، وأثبت للعدو الإسرائيلي أن هذه المدينة كانت لنا وستبقى لنا، وسنعود إليها طال الزمن أم قصر، وستخلو شوارعها منهم، وستعود بيوتها لنا كما كانت، نسكنها ونعمرها، ونصبغها بصبغتنا العربية والإسلامية، وسنعمر مساجدها، ونحي دور العبادة فيها، وسيصدح في سمائها من جديد نداء الله أكبر من فوق مآذنها، وبصوت أهلها وسكانها الفلسطينيين، العرب المسلمين الأماجد.