المدينة المقدسة وربع الساعة الأخيرة
تاريخ النشر : الثلاثاء , 12 يوليو 2011 - 10:16 صباحاً بتوقيت مدينة القدس
المدينة المقدسة وربع الساعة الأخيرة
انتقلت المعركة الضروس التي تشنها سلطات الاحتلال «الإسرائيلية» على مدينة القدس وعلى الوجود العربي الإسلامي فيها إلى طور جديد مع تواصل عمليات التهويد والاستيطان الاجلائي وتغيير معالم الوجود التاريخي العربي بشكل غير مسبوق، في حملة «إسرائيلية صهيونية» تستهدف ما تبقى من هوية القدس العربية، وكان آخرها تحويل القصور الأموية في البلدة القديمة إلى مكان مقدس لليهود من خلال إقامة المدرجات والساحات وربطها بساحة البراق التي تحولت إلى «مصلى لليهود» وتشكيل حزام تهويدي حول المسجد الأقصى يحيط به من كل الجوانب.
فما هي الإجراءات الصهيونية الأخيرة التي تجري الآن على قدم وساق، وبشكل صامت أحياناً للإجهاز الكامل على الوجود العربي الإسلامي في المدينة المقدسة وعلى محيطها...؟
طمس ومحو الهوية:
نبدأ القول إن سلطات الاحتلال، أضافت إلى اجراءاتها التهويدية الاستيطانية المباشرة على الأرض مؤخراً، قيامها بتغيير أسماء الشوارع والأماكن وتشويه ملامحها العربية والإسلامية، بشكل بات يهدد هوية القدس وتاريخها وطابعها وارثها العربي الإسلامي.
فقد كانت عضو الكنيست (تسيبي حوتوبلي) من حزب الليكود قد قدمت اقتراح مشروع قانون يلزِم الجميع بتسمية أحياء القدس بأسمائها العبرية، وليس بأسمائها الأصلية العربية التي أطلقها عليها أصحابها العرب، ليصبح حي المالحة العربي مثلاً حي «منحات»، وحي باب الوادي حي «شعار هاغيه»، وحي شيخ بدر حي «غفعات رام»، وحي الشيخ جراح حي «شمعون هاصديق»، وحي راس العامود حي «معاليه زيتيم»، وحي أبو ديس حي «كدمات تسيون»، وحي سلوان حي «هاشيلوح»، وحي الثوري حي «غفعات حنانيا»، وحي الطالبية حي «كومميوت»، وحي مصرارة حي «موراشا».
لكن التطور الجديد في عمليات التهويد والاستيطان بات ينطلق الآن مع انتقال عشرات المشاريع والتصورات «الإسرائيلية» للتطبيق على أرض الواقع مع جرف مساحات متزايدة من مقبرة (مأمن الله) الإسلامية التاريخيه والتي تضم رفات العشرات من الصحابة، ومنهم قبر الصحابي (عبادة بن الصامت).
فقد كانت الجهة المسماة بـ «دائرة أراضي إسرائيل» قد اتخذت قراراً أعطت بموجبه إذناً وموافقة للاستمرار بجريمة تجريف أجزاء واسعة من مقبرة (مأمن الله) الإسلامية التاريخية والمقامة منذ بدايات العهد الأموي، استكمالاً لما تم جرفه في أغسطس 2010 بعد قيام مؤسسة الأقصى بترميم وإصلاح نحو (1000) قبر من قبور مقبرة مأمن الله كانت عرضة للاندثار، بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وكل ذلك من أجل بناء ما تسميه سلطات الاحتلال «متحف التسامح» (لاحظوا أسمه : متحف التسامح، فوق مساحات من مقبرة مأمن الله الاسلامية التاريخية).
إضافة لذلك، فان التقديرات الرسمية الفلسطينية تشير بأن آلاف المنازل المقدسية التي يسكنها مواطنون فلسطينيون داخل الأحياء المختلفة للمدينة، قد تم استصدار قرارات جائرة تقضي بهدمها في أي لحظة، ومن بينها أحياء كاملة مثل حي البستان جنوب الأقصى والمهدد بهدم (88) منزلاً فيه وحي الشيخ جراح المهدد بهدم (28) منزلاً فيه، لصالح إقامة مرافق للمستوطنين اليهود القادمين إلى فلسطين من أصقاع المعمورة الأربعة.
فالعمليات التهويدية الاجلائية، باتت في الفترات الأخيرة تصيب في جزء منها دواخل المدينة القديمة وأزقتها وحاراتها، التي هي عربية إسلامية ومسيحية خالصة، وعلى المناطق المطلة على المسجد الأقصى.
وقائع على الأرض:
وفي هذا المسار أيضاً، فقد كشفت مصادر «إسرائيلية» مسؤولة عن تفاصيل المشاريع التهويدية الجديدة تجاه المدينة المقدسة والمعنونة تحت غطاء خطة تقديم «الدعم الاقتصادي للمدينة»، و «دعم مكانة المدينة اقتصادياً» وذلك في الذكرى الرابعة والأربعين لاحتلال المدينة المقدسة في الخامس من يونيو 1967، هذا المبلغ يضاف إلى نحو مليار دولار ترصده «إسرائيل» سنوياً لتسريع تهويد وتغيير الوقائع الديمغرافية فوق تراب القدس.
والخطة تأتي عبر إقرار ميزانية تزيد على (100) مليون دولار أميركي، بهدف تنفيذ ما أسمته حكومة نتانياهو بـ «الخطة الاقتصادية الشاملة» والمقرر لها أن تمتد لخمس سنوات، وتهدف إلى تنفيذ مشاريع مختلفة لتغيير وجه المدينة، وتكثيف الاستيطان عبر استقطاب شرائح جديدة من الصهاينة القادمين إلى فلسطين المحتلة للإقامة فيها، وذلك في الفترة الممتدة ما بين عام (2011- 2016).
وتتضمن الخطة أيضاً تخصيص مبلغ (42) مليون دولار أميركي تقريباً لما قيل إنه «استثمار في المجال السياحي»، كتطوير «البنية التحتية» لمدينة القدس، وتطوير ما يعرف بمشروع «الحائط الغربي»، إضافة لتوسيع (تسمين) عددٍ من المستعمرات الواقعة في مدينة القدس الشرقية، وتتضمن عملياً بناء نحو (7900) وحدةٍ استيطانيةٍ، ومشروع بناء (940) وحدة استيطانية جديدة في مستوطنة (جبل أبو غنيم) التي تسميها مصادر الاحتلال بمستعمرة «هارحوما»، بالإضافة إلى بناء (942) وحدةٍ في مستوطنة «جيلوا» وكلاهما يقعان جنوبي القدس، فضلاً عن المخطط الرامي لبناء (1500) وحدةٍ جديدةٍ على أراضي الجمعية التعاونية (رامات راحيل)، وبناء (625) وحدةٍ جديدةٍ في مستوطنة «بيسغات زئيف» شمالي القدس، ولكن المخطط الأبرز الذي تم نقاشه من قبل اللجنة الفرعية هو المخطط التوسعي لإضافة (1600) وحدةٍ استيطانيةٍ جديدةٍ في مستعمرة «ريختس شعفاط».
إن الشيء الخطير في مشاريع التهويد الأخيرة التي تزحف في القدس ومحيطها، اتخاذها طابعاً مختلفاً عما سبقها وذلك عبر التوغل على محورين اثنين: المحور الأول داخل الأحياء والحواري العربية القديمة داخل المدينة القديمة، والمحور الثاني المتمثل بإنشاء الأحياء اليهودية على الجبال المحيطة بالقدس مثل جبال خان الأحمر وإقامة مستوطنة معاليه أدوميم هناك، وجبال النبي صموئيل، والتي لا تبعد عن المسجد الأقصى كثيراً. أن تلك العملية أخذت بالتقدم تجاه المسجد الأقصى، ومقدراً لها حسب حكومة الاحتلال أن تتوقف قليلاً عند التلة الفرنسية، وحي الشيخ جراح.
وعليه، إن المشروع الصهيوني بالنسبة لمدينة القدس يترجم نفسه بالوقائع على الأرض ويسابق الريح، مستغلاً حالة الجمود التفاوضي والفراغ السياسي وانشغال العالم العربي بالتحولات الجارية في أكثر من بلد، في مسعى صهيوني لخلق متغيرات ديمغرافية على الأرض، ولاستباق أي تطورات قد تطرأ على المسار التفاوضي الفلسطيني ــ الصهيوني المتوقف أصلاً منذ فترة طويلة، وفي سياق الرؤية الصهيونية التي تقول بـ «القدس موحدة، هي جزء من وحدة شعب إسرائيل» وأنها «العاصمة الأبدية الموحدة لشعب إسرائيل».
وبالتأكيد، إن المعركة على مدينة القدس ومحيطها ليست بنت لحظتها، فهي عملية مستديمة ابتدأتها قوات الاحتلال مع احتلال الجزء الغربي من المدينة عام 1948 حين تم تدمير كامل الأحياء التاريخية العربية الإسلامية والمسيحية إضافة لهدم القرى القريبة من الجزء الغربي وضمها للمدينة.
لكن النقلة الثانية الكبرى في مشروع تهويد المدينة، فقد تتالت بعد احتلال الجزء الشرقي منها كاملاً عام 1967، واستتبع بقرار الضم الجائر، فضلاً عن توسيع الحدود الإدارية للمدينة حتى باتت تقارب مساحتها الآن ربع مساحة الضفة الغربية المحتلة عام 1967 وفق مخطط (متروبلين) القدس الذي بدأ في وضعه رئيس البلدية الصهيوني الأسبق (تيدي كوليك)، بقصد تحويل المدينة إلى «قدس موحدة لإسرائيل» باعتبار أن وجود السكان العرب الأصليين مسلمين ومسيحيين خطر عليها، هذا الخطر الذي بات يعرف عند عتاة الصهاينة بـ (القنبلة الديمغرافية) التي تهدد هوية «الكيان العبري الصهيوني» ومنها مدينة القدس.
استخلاصات أخيرة:
إن المدينة المقدسة تعيش لحظات حاسمة من تاريخها، فسيف التهويد المسلط عليها أكل الأخضر قبل اليابس، ويكاد الآن أن يزيح التوازن السكاني باتجاه أغلبية يهودية بعد أن كانت تاريخياً أقلية في بحر الحضور العربي الإسلامي.
فـ «إسرائيل» تعمل الآن على التمدد في بناء البؤر الاستيطانية التي تلتهم مدينة القدس، واستكمال مراحل التوسع في محيط المدينة، مع وجود (37) مستعمرة في المناطق الشرقية للمدينة والمحتلة عام 1967.
وفي هذا السياق، يلحظ تراجع الدعم العربي لمدينة القدس، فملايين الدولارات التي أقرت في القمم العربية الأخيرة لدعم المدينة المقدسة في وجه التهويد ومصادرة هويتها العربية الإسلامية، لم يصل منها شيء، والمبالغ التي أقرت في قمة سرت العربية الأخيرة وصلت نحو (500) مليون دولار ولكن لم يجمع منها أي شيء حتى الآن.
نعم هناك مبادرات لمؤسسات عربية وعلى مستويات مختلفة تجاه مدينة القدس والمؤسسات الفلسطينية فيها، باجتهادات فردية وليست رسمية، في الوقت الذي يدفع فيه رجال الأعمال اليهود مليارات الدولارات لتهويد المدينة ومحو طابعها العربي الإسلامي، وعلى رأسهم الممول الصهيوني ذائع الصيت (أرفين موسكوفيتش) الذي يعمل على ضخ الأموال الضخمة التي تعود بأرباحها عليه من نوادي القمار في نيويورك لصالح تهويد المدينة والاستثمار في عمليات البناء داخلها وعلى حدودها.
إن الواقع مؤلم بالرغم من الصمود الأسطوري لأبناء المدينة في وجه (غول) الاستيطان والتهويد الزاحف، فلم يتبق للمقدسيين في المدينة سوى (10%) من مساحة أراضيهم الإجمالية.
ومن هنا، إن المدينة المقدسة تنتظر دوراً عربياً وإسلاميا حياً ومبادراً ينتقل من الأقوال إلى الأفعال، ويعمل على تحشيد جهود المؤسسات العربية والعالمية في إطار حملة مطلوبة لإنقاذ المدينة من التهويد الجائر الذي يتناقض مع القانون الدولي ومع قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، خصوصاً منها القرار الذي يعتبر القدس أرضاً محتلة.
كتائب المجاهدين
جهاز التعبئة والإرشاد